العدد 343 - الخميس 14 أغسطس 2003م الموافق 15 جمادى الآخرة 1424هـ

المسيري: مؤرخ من طراز رفيع

قدم نموذجا تفسيريا لظاهرة الصهيونية والغرب

ربما كان أهم ما يميز عمل عبدالوهاب المسيري الذي شهدت رحلته الفكرية تحولات كثيرة على المستوى الأيديولوجي، خصوصا في ضوء المرحلة التي تميزت بتوالي الهزائم على الأصعدة جميعا انه مؤرخ من الطراز الرفيع، ويكاد يكون منفردا على المستوى العربي في درجة تعمقه في بحث مسألة اليهودية والصهيونية لجهة قوة طرحه الذي لا يركن للقار من الأفكار المتداولة، بل وجدناه على الدوام مفسرا ومحللا وقارئا للظاهرة الصهيونية في سياقها التاريخي، وكذلك في السياق الفلسفي، والاقتصادي، والسوسيولوجي، الذي نشأت فيه.

وتقدم أعماله ومؤلفاته إجمالا، وخصوصا تلك التي تبحث في مسألة اليهودية والصهيونية إضاءات مهمة لا تتلبث عند سقف مؤسس من قبل، ولعل أهم ما أتى به هو نموذجه التفسيري لهذه الظاهرة انطلاقا من كونها الجماعة الوظيفية. هذه الجماعة لعبت في الماضي دورا محددا، إذ كانت الوسيط التجاري بين قارات العالم القديم في الوقت الذي سبق نشوء الرأسمالية، وكان الاقتصاد وقتها لايزال يتراوح في الدورة المركنتلية، مرورا بتهميش دورهم وعزلهم أو عزل أنفسهم في الجيتوات المتناثرة هنا وهناك، وخصوصا بين أوساط الطبقات غير المنخرطة في حراك المجتمعات الأوروبية. وصولا إلى قيام الكيان الصهيوني وعد الولايات المتحدة لهم مجرد جماعة وظيفية تحقق أميركا من خلالهم مصالحها.

وهذا النموذج التفسيري رسمت أبعاده بوضوح في الموسوعة التي ألفها المسيري، وفي كتاب آخر صدر العام الماضي بعنوان «الجماعة الوظيفية اليهودية نموذج تفسيري جديد». ولايزال المسيري يعيد إنتاج هذا الطرح في كتب تالية، آخرها هو كتاب «الصهيونية والحضارة الغربية» والصادر حديثا، وكذلك فإن المسيري صاحب دعوة مستمرة للبحاثة العرب بعدم الاستسهال في مقاربة الصهيونية، وعدم اختزال هذه القضية، ويشدد على ضرورة قراءتها بصورة لا تعمد إلى تصوير الصهيانية على أنهم قوة خارقة تقود العالم، وتمسك بكل خيوط اللعبة، وتوجه من تريد إلى حيث تريد بل بوصفهم جماعة وظيفية، كما نجده يلح دائما على ضرورة استبعاد كل ما يتعلق بالبروتوكولات الملفقة، داعيا بحرارة إلى ضرورة استبعاد البروتوكلات من الخريطة الإدراكية.

وفي هذا المؤلف «الصهيوينة والحضارة الغربية» يرسل المسيري تطمينات مباشرة من أن كل الجيوب الاستيطانية في العالم - كما شهدت حركة التاريخ بذلك - والتي لم تعمد إلى إبادة السكان الأصليين، مازالت باستثناء الجيب الصهيوني، وآخر مثال زال هو جنوب إفريقيا. هذه التطمينات يركز عليها المسيري في معرض فحصه للعلاقة الشائكة والمعقدة التي اندغمت فيها الصهيونية بالحضارة الغربية لاسيما في تحديد العلاقة معها، وفي صلتها المتماهية مع الاستعمار العالمي الذي عمد في شكل من أشكاله إلى اتباع سياسة إحلالية.

يتألف الكتاب من عشرة فصول متنوعة الموضوعات لكنها تلتئم مع بعضها البعض لتعطي قراءة عن نشأة الصهيونية والأوضاع التي سبقتها وخصوصا في الفترة التي أعقبت طرد اليهود من الأندلس، مرورا بقيام الثورة الصناعية بمفاهيمها الجديدة، والتي أفضت إلى توافر فائض سلعي، وآخر بشري، ثم بفحص التأثيرات المختلفة خاصة الرومانسية والنيتشوية والداروينية. وهو طرح أثير عند المسيري مؤداه يقود إلى تشابك واضح يفيد بأن الصهيونية هي من صلب الحضارة الغربية. انتهاء بفحص فكر ديفيد بن جوريون.

ولكن تبقى الإشكالية الأهم في ذهابات المسيري المختلفة وهي رسم حدود فاصلة وواضحة بين قبضه على مفهوم اليهودي، وتفريقه عن مفهوم الصهيوني، إذ ان الشتات الصهيوني (الدياسبورا) لا يكفي وحده لوضع الضوابط الواضحة لهذه المسألة.

عبدالوهاب المسيري. الصهيونية والحضارة الغربية. القاهرة: دار الهلال، الطبعة الأولى، أغسطس/آب 2003 م، 418 صفحة

العدد 343 - الخميس 14 أغسطس 2003م الموافق 15 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً