لقد غمرني رد حسين علي الحداد بكثير من الأمور التي تستحق الشكر والامتنان والتقدير، ولأن «الوسط» صحيفة تميل إلى هذا النوع من الرد فقد أعطته لونا مميزا ليلفت نظر القارئ من جهة، ولترفع عن نفسها تبعة ما كتبه محرر جديد لديها يتميز باستقلالية الرأي ممن يصعب شراؤهم في هذا الزمن الرديء.
غمرني الحداد بكثير من الأمور التي تستحق الشكر والامتنان كما قلت من بينها:
أنه أعطى المقال أهمية خاصة فقرأه وبذل جهدا طيبا في الرد عليه وهذا محل اعتزاز كل كاتب كان حديث العهد بالكتابة أو شاخ مثلنا، لأنه يشعر بأن هناك من تجاوب معه واعتبره شخصا يستحق الرد عليه ولا يجب إهماله... أشكره لأنه كشف لي معلومات لم أكن متيقنا منها وكانت مكان حيرتي حتى جاء ذلك على لسان «شاهد من أهلها» كما ذكرت الآية الكريمة في إحدى آيات سورة «يوسف» في القرآن الكريم. ففي الحقيقة لم أكن أعلم أن الثورة الإسلامية في إيران التي ترأسها العالِم الجليل آية الله الخميني إنما فعل الأميركان ذلك خوفا من سقوط نظامه في يد عناصر مناوئة لهم، فهم الذين سحبوا العميل الأول شاه إيران وأتوا بعميل جديد هو آية الله الخميني - كما ذكر الحداد - علما بأنني كنت دائما أنزه هذه الثورة من أن يكون الملالي في إيران من صنيعة العم سام، وأن كل ما يجري أمامنا من شد وجذب في الساحة السياسية اليوم بين إيران والولايات المتحدة مجرد لعبة سياسية، وأن ما يسرّب عن جمهورية إيران الإسلامية، بأنها تتعامل مع «إسرائيل» وتشتري منها أسلحة، لا يراد منه تشويه هؤلاء الملالي بل هو حقيقة بحسب رأي الحداد.
أشكر «الحداد» مرة أخرى لأنه حين حاول أن يسن سكينه خوفا من أن تكون «كلة» قبل أن يحاول غرزها في مقتل ليجرحني بشكل شخصي في نهاية المقال معتقدا أنه سيبلغ من التجريح حدّا حين يتهمني بأنني من حولة الساحل الإيراني فقال: «مازالت ذيول حزب توده الإيراني موجودة».
ولهذا يستحق كل الشكر والتقدير والامتنان لأنه كشف عن ضعفه واستعداده لاستخدام أرخص سلاح شوفيني لا يقره الدين ولا المنطق، ولم أكن أتوقع أن ينحدر برده إلى هذا المستوى، ثم أن إيران من العراقة والتاريخ ما لا يسيء لمن ينتمي إليها بشيء، وهو بذلك أساء إلى أكثر من 60 مليون إيراني.
وخوفي أن يكون غيري أكثر انتماء إلى إيران وأقرب إليها من جوانب كثيرة، ولهذا نسبني إلى تاريخ عريق وانتماء ذي جذور موغلة في القدم مع اني لم أدعِ شرف هذا الانتماء ولو كنت منهم حقيقة ولو كان بإمكاني التحدث مثلهم لما أنكرت ذلك.
وأشكره كذلك عندما أفهمني بهذا المقال أن هناك بقايا من البشر في البلاد العربية من يرون أن الأميركان يستحقون التقدير والمودة وعلينا أن نصب كل لعناتنا على الشيوعيين.
بعد كل ذلك أود أن أبين نقاط ضعفه ومواقع خطئه في التحليل، فقد فعل ما فعله الزميل جناحي حين حاول الدخول إلى بحر لا يعرف العوم فيه.
من بين الدلائل التي يستشهد بها ليعزز رأيه أن تعاون الاتحاد السوفياتي مع مصر وتقديم كل تلك الأسلحة إليها ووقوفه معها حتى انتصارها في حرب اكتوبر/تشرين الأول 1973 كان يراد منه نشر الفكر الشيوعي باعتبار مصر البوابة الأكبر والأهم في تصدير الفكر الشيوعي من خلالها إلى منطقة الشرق، وهو يعلم قبل الاتحاد السوفياتي بأن فاطميي مصر يمكن أن يتحوّلوا إلى سنة، ولكن يصعب على أي فكر آخر خارج دائرة الإسلام أن يتغلغل في قلوب أهل مصر المحروسة، فحتى مستخدمو المخدرات والحشاشون واللامبالون بالدين في مصر لا يمكن أن تتسع صدورهم لأي دين غير الاسلام ولا يمكن أن يخترقها، لكن كل ما حدث أن من حق دولة صناعية منافسة للنظام الامبريالي أن تجد أسواقا لها، فالقضية اقتصادية وليست عقائدية - وأنت تعلم ذلك ربما أكثر مني - والدليل على ذلك أنه عندما تولى الحكم في مصر عميل أميركي مثل السادات وطالب السوفيات بالخروج، لم يترددوا أو يحتجوا على كل ما قدموه من أسلحة ودعم للاقتصاد المصري فضلا عن القمح، إذ حين أرادت الولايات المتحدة الامتناع عن بيعه إلى مصر أيام عبدالناصر، أرسلت القيادة السوفياته برقية إلى السفن المحملة بالقمح إلى شعبها بأن تغير اتجاهها إلى مصر لأن شعبها أولى مادام بحاجة إليه. وعندما رفضت الولايات المتحدة بناء السد العالي قام الاتحاد السوفياتي ببنائه لحماية الشعب المصري من الجفاف الذي أصاب بقية دول إفريقيا، ومع ذلك خرج الاتحاد السوفياتي من دون تردد مع أنه كان دولة قوية كبرى يهابها الأميركان وكان قد سبقهم بإرسال سفينة إلى الفضاء بعشر سنوات قبل أن يستيقظ الأميركان من نومهم على نبأ سفينة الفضاء التي تحمل جاجارين تشق عنان السماء متجهة إلى القمر، ولو كان السوفيات أتوا لنشر الفكر الشيوعي لما خرجوا بهذه السهولة.
ولو أن الأميركان أو الإنجليز أو حتى الفرنسيين احتلوا أفغانستان مثلما كان الاتحاد السوفياتي وكانت الحكومة موالية له، فهل تتوقع أنهم كانوا سيتركون عددا من الإسلاميين يأتون ليحاربوا نجيب الله من دون أن يتم حرقهم مثلما فعلت أميركا وفرنسا في الشعب الفيتنامي ومثلما فعل الإنجليز في فوكلاند ومثلما فعل الفرنسيون في الجزائر حين ذهب ضحية الدفاع عن أرضها أكثر من مليون شهيد؟! ألم يكن في إمكان القيادة السوفياتية، وهي في أوج قوتها، أن تجعل أفغانستان للقادمين من دول الخليج وبعض البلاد العربية لمحاربة حكومة موالية لهم وملتصقة بأرضهم، مقبرة لهم جميعا؟ لكن الاتحاد السوفياتي كان أكثر تعقلا، وقيادته لم تستخدم قوتها وإمكاناتها العسكرية وإلا لكانت ضحاياها بمئات الألوف، وأنت تعرف أن عدد من ذهب لقتال حكومة نجيب الله من الإسلاميين لم يكن يزيد على بضعة آلاف يتقدمهم الشيخ أسامة بن لادن والظواهري. وها نحن ندفع الثمن من قبل الدولة الرأسمالية الظالمة التي تسوسها الصهيونية العالمية، فقد تحولت كل دول المنطقة إلى هدف لها وباعتها جميعها من أجل عيون شارون وزبانيته، وحتى التي لها علاقات تاريخية معها - مثل المملكة العربية السعودية - صارت دولة إرهابية في نظرها فلم تسلم لا إيران ولا سورية ولا حزب الله اللبناني من شرورها. فهل فعل السوفيات ذلك في الشعوب أو الأنظمة الشرق أوسطية التي تعاملوا معها؟ لماذا كل هذا الحقد؟ أليس من واجب الإنسان المسلم أن يقتدي بتعاليم الدين الحنيف الذي يقول الله في محكم كتابه «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى». وأود أن أنبه «الحداد» إلى أن اتهام جبهة التحرير الوطني البحرينية التي ناضلت منذ أوائل الخمسينات من أجل الحقوق المشروعة للمواطن البحريني حتى ولو كان فردا من أفراد معدودين من حزب توده الإيراني الذين كانت لهم علاقة نضالية ببعض قيادات الجبهة، وأنهم كانوا ضمن من شجعوهم على تأسيسها لمقاومة المستعمر الإنجليزي فهذا شرف كبير لنا ونحن نشد على أيديهم بحرارة وخصوصا أولئك الذين تم ترحيلهم من قبل الانجليز أيام الشاه إلى إيران فأعدموهم وتمكن واحد منهم من الهرب إلى سورية إذ قضى نحبه بمرض... رحم الله علي مدن وبقية الرفاق الذين راحوا ضحية النضال إلى جانب الشعب البحريني.
ومن حقهم علينا - إن كان هذا يريح أعصاب من يكرر دائما أن جبهة التحرير أرشدهم إلى تأسيسها بعض العناصر من حزب توده الإيراني - أن ندعوا لهم بالخير وأن يجمعهم مع الشهداء والأبرار ونحن لسنا نادمين على ذلك ويشرفنا أن نمد يدنا إلى كل شرفاء العالم ممن يقفون مع قضايانا مثل اللورد آيبري وغيره، تماما مثلما يتذكر الشعب الكوبي اليوم بمناسبة احتفالاته بمرور خمسين عاما على ثورته ومازال يرفع صور الثائر البوليفي شي جيفارا الذي شارك كاسترو في ثورته على الدكتاتور باتستا ولا يعيبه إطلاقا أن ماركسيّا من بلد آخر كان يقاتل معهم في عملية التحرير.
والأمة العربية والإسلامية إن كانت تندم على شيء اليوم، فعليها أن تندم على خروج الاتحاد السوفياتي من الساحة لأننا كنا وراء ذبح قوة كانت تحافظ على التوازن الدولي ولا تترك مجالا لحكومة ظالمة مثل شارون، وإدارة طاغية مثل إدارة بوش، أن تفعلا في الشعب الفلسطيني والمسلمين ما يحدث لهم اليوم.
سؤال أخير للحداد هو: هل يعيب الشيعة أن تكون مرجعياتهم في إيران؟ وهل يسيء إلى شيعة البحرين أنهم يستمدون كل أحكامهم وإرشاداتهم من مرجعياتهم في إيران؟ وهل يظل شيعة البحرين على رغم ذلك عربا أم تحسبهم إيرانيين؟
العدد 343 - الخميس 14 أغسطس 2003م الموافق 15 جمادى الآخرة 1424هـ