أصبحت الديمقراطية، وحقيقة موقف الإسلاميين منها، من أكثر الأمور جدلا على الساحتين السياسية والفكرية، وتوزعت الآراء وتنوعت الاجتهادات في هذه المسألة، وبرز للإسلاميين موقفان متناقضان، الأول: الرفض المطلق للديمقراطية، والثاني: القبول بها داخل إطار إسلامي.
الموقف الأول: الرفض
يعتبر أصحاب هذا الرأي الديمقراطية بضاعة مستوردة من ديار الكفر، وعملة غربية لا تصلح لحياة المسلمين، وأن أهم ما تحتوي عليه من عناصر، وأفضل ما تتميز به من صفات، يشتمل عليه الإسلام، وأنها ما هي إلاّ وسيلة لحرب الإسلام والمسلمين.
يقول عدنان علي رضا النحوي في كتابه (الشورى لا الديمقراطية): «كانت الديمقراطية أداة لمحاولة إزاحة قوة الإسلام من المجتمع، من الصدور، من العقول، من القلوب. كانت الوسيلة المستخدمة لرفع الحجاب عن المرأة، وإقرار الاختلاط، والتمكين للعلمانية، ودخول المبادئ الهدامة إلى العالم الإسلامي»... ويعتبر النحوي «أن الديمقراطية حملت ثلاث قضايا إلى دار الإسلام، وكانت منطلقا لكل الانحرافات الأخرى: الحكم للشعب كقانون عام مطلق، لا سلطة لشيء فوقه أبدا، وفرض رأي الأكثرية من دون أية ضوابط حتى أصبحت الأكثرية تشرع وتحلل وتحرم على غير ما أنزل الله، ونشر اللادينية أي العلمانية».
ويقول محمود الخالدي في كتابه (الديمقراطية الغربية في ضوء الشريعة الإسلامية): «إن الوصف الصحيح للنظام الديمقراطي، هو ذلك النظام الذي يعتبر فصل الدين عن الحياة هو القاعدة الفكرية التي تبني مفهومه الذي يتمثل في الإصرار على أن السيادة للشعب. وان الحاكم الذي له حق إصدار الأحكام على أفعال الإنسان إنما هو العقل وحده، إذ لا علاقة للخالق بذلك، فما لقيصر لقيصر، وما لله لله... فالحاكمية والسيادة وإصدار الأحكام إنما هي للعقل لا للشرع. فالإنسان هو الحاكم، والإنسان هو المشرع، والإنسان هو صاحب السيادة ممثلا في رأي الغالبية».
أما عبدالغني الرحّال، السلفي الاتجاه، فله مؤلف كبير في نقد الديمقراطية، يقع في أكثر من 500 صفحة، بعنوان (الإسلاميون وسراب الديمقراطية)، وينتهي فيه إلى النتائج الآتية:
الديمقراطية منهج غربي يخدم في الحقيقة طبقة معينة.
وأن المجالس النيابية في العالم الإسلامي لا ترجع في تشريعاتها إلى الكتاب والسنّة.
وأنه من البدعة مشاركة الإسلاميين في هذه المجالس.
الموقف الثاني: القبول داخل الإطار الإسلامي
وأصحاب هذا الرأي يشكلون غالبية الإسلاميين اليوم، وهم قد اعتبروا هذا الأمر من مسائل السياسة الشرعية التي تعتمد الموازنة بين المصالح والمفاسد، وأن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب، وأن الديمقراطية أضحت وسيلة لتحقيق الرقابة على السلطة وصيانة الحقوق والحريات العامة، كما أنها الطريق إلى الاستقرار السياسي ومنع حركات التمرد والخروج المسلح، بالإضافة إلى بشاعة البديل وهو الاستبداد بالسلطة وما ترتب على ذلك عبر التاريخ من مآس وأخطاء.
ويؤكد أتباع هذا الرأي أن المسألة ليست في تشبيه ومقارنة الإسلام بالديمقراطية، فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
يقول فهمي هويدي، وهو من الداعين بقوة إلى هذا الرأي، في كتابه (الإسلام والديمقراطية): «يظلم الإسلام مرتين، مرة عندما يقارن بالديمقراطية، ومرة عندما يقال إنه ضد الديمقراطية».
كما ناقش الشيخ محمد الغزالي هذه المسألة في كتابه (دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين). يقول رحمه الله: «الديمقراطية ليست دينا يوضع في صف الإسلام، وإنما هي تنظيم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، ننظر إليه لنطالع كيف توافرت الكرامة الفردية للمؤيد والمعارض على السواء، وكيف شيدت أسوار قانونية لمنع الفرد أن يطغى، ولتشجيع المخالف أن يقول بملء فمه: لا، إن الاستبداد كان الغول الذي أكل ديننا ودنيانا، فهل يحرم على ناشدي الخير للمسلمين أن يقتبسوا بعض الإجراءات التي فعلتها الأمم الأخرى لمّا بليت بمثل ما ابتلينا به».
أما توفيق الواعي، في معرض تأكيده الإطار الإسلامي، فنراه يقول في كتابه (الفكر السياسي المعاصر عند الإخوان المسلمين):
« بأسلمة الديمقراطية يمكن تجنب هذه السوآت، وذلك بالتزام مبادئ الإسلام في الشورى، وأهمها:
تقرير مسئولية كل فرد أمام الله والأمة.
التخلق بخلق الإسلام في الشورى.
لا اعتبار للغالبية عند وجود نص شرعي.
الالتزام بأحكام الإسلام فيما يتعلق بشروط الولاية والمسئولية»
ونستشهد بسطور من الفتوى المشهورة للشيخ يوسف القرضاوي عن الديمقراطية ، والتي ذكرها في المجلد الثاني من (فتاوى معاصرة) ، ونقلها في كتابه (من فقه الدولة في الإسلام). يقول: «إن الإسلام قد سبق الديمقراطية بتقرير القواعد التي يقوم عليها جوهرها، ولكنه ترك التفصيلات لاجتهاد المسلمين، وفق أصول دينهم، ومصالح دنياهم، وتطور حياتهم بحسب الزمان والمكان، وتجدد أحوال المسلمين. وميزة الديمقراطية أنها اهتدت خلال كفاحها الطويل مع الظلمة والمستبدين من الأباطرة والملوك والأمراء إلى صيغ ووسائل، تعتبر إلى اليوم أمثل الضمانات لحماية الشعوب من تسلط المتجبرين. ولا حجر على البشرية وعلى مفكريها وقادتها، أن تفكر في صيغ وأساليب أخرى لعلها تهتدي إلى ما هو أوفى وأمثل، ولكن إلى أن يتيسر ذلك ويتحقق في واقع الناس، نرى لزاما علينا أن نقتبس من أساليب الديمقراطية ما لابد منه لتحقيق العدل والشورى واحترام حقوق الإنسان».
ويؤكد القرضاوي فيما يتعلق بموقف الإسلام من الديمقراطية، الديمقراطية يجب أن نأخذ منها أساليبها وآلياتها وضماناتها التي تلائمنا، ولنا حق التحوير والتعديل فيها، ولا نأخذ فلسفتها التي يمكن أن تحلل الحرام، أو تحرم الحلال، أو تسقط الفرائض.
وقريبا من هذا الموقف، يقول السيدمحمد حسين فضل الله في حواره مع مجلة (المنطلق الجديد، العدد 2) مؤكدا مرجعية الإسلام: «نختلف مع الديمقراطية في نقطة فلسفية أساسية، وهي أن الديمقراطية تعتبر أن الشرعية هي الأكثرية، وأن الحق هو ما تقوم به الأكثرية من دون ضوابط أخرى، ليس لأحد أن يفرض على الأكثرية أي قيود وأي حدود معينة، ولكن الإسلام ليس كذلك، ولذلك كنا نقول يجوز لنا أن نأخذ بالديمقراطية أو بالأكثرية كآلية ولكننا لا نتبنى فلسفتها».
ولتأكيد التزام الإسلاميين بهذه الديمقراطية، من خلال المشاركة السياسية السلمية، ولتأكيد أنهم قد أصبحوا جزءا لا يتجزأ من الحياة البرلمانية في أقطار عدة، نجول هذه الجولة السريعة:
في مصر يشارك (الإخوان المسلمون) في الحياة النيابية منذ أن خاض الإمام حسن البنا الانتخابات في الأربعينات وإلى اليوم. ففي انتخابات مجلس الشعب للعام 1984 فازوا بتسعة مقاعد متحالفين مع حزب الوفد. وفي العام 1987، وعلى رغم عمليات التزوير فازوا بـ 36 مقعد قوائم وخمسة مقاعد فردية متحالفين مع حزب الشعب. ولديهم اليوم 17 نائبا في المجلس. ويوجد الإسلاميون كذلك في المجالس النيابية في السودان (الإخوان والتيار الإسلامي الحاكم)، والجزائر (حركة مجتمع السلم وحزب الإصلاح الوطني)، والمغرب (حزب العدالة والتنمية)، واليمن (التجمع اليمني للإصلاح)، ولبنان (حزب الله)، والأردن (جبهة العمل الإسلامي).
أما في الكويت، فيعتبر الإسلاميون من أكثر النواب نشاطا، سواء في ذلك النواب السنّة من الإخوان والسلفيين، أو النواب الإسلاميين الشيعة. مع ملاحظة أن السلفيين في الكويت يشكلون ظاهرة نادرة باعتبار أن عموم أصحاب هذا الاتجاه لا يشاركون في العملية الديمقراطية في بلدانهم، وقد اقتدى بهم سلفيو البحرين في الانتخابات الأخيرة.
أما في خارج إطار العالم العربي فها نحن نرى التيار الإسلامي يثبت وجوده من خلال حزب السعادة، وحزب العدالة والتنمية الأكثر شعبية في تركيا، والحزب الإسلامي في ماليزيا، الذي يشكل حكومات محلية في بعض ولايات الاتحاد الماليزي، والجماعات الإسلامية في باكستان، والتي حققت مكاسب لا بأس بها في الانتخابات الأخيرة ضمن تحالف من خمسة أحزاب إسلامية سنية وشيعية.
يذكر أن العناصر الإسلامية في برلمانات هذه الدول، يعدون أكثر النواب نشاطا وتمثيلا صادقا لناخبيهم.
يقول فتحي يكن في كتابه (أضواء على التجربة النيابية الإسلامية في لبنان): « إن مشاركة الإسلاميين في المجالس التشريعية في الأقطار المختلفة، وقيامهم بدورهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وإسهامهم في معالجة كل جوانب الحياة، ابتداء من بناء الإنسان إلى بناء الأوطان، لدليل قاطع على أن الأصل في المشروع الإسلامي التغييري، الدعوة والحوار وعرض المبادئ والأفكار، وتسويق التشريع الإسلامي عبر مواقع القرار المختلفة».
يتبين مما سبق، أن الحركات أو الأفراد الذين رفضوا الديمقراطية، أو أبدوا تحفظات شديدة عليها، إنما فعلوا ذلك من منطلق حبهم للإسلام وحرصا على نقائه، فلا يجوز التشنيع عليهم، وهذا ما أدى إليه اجتهادهم.
وأن الغالبية العظمى تتبنى الرأي الآخر القائل بجواز الأخذ بالديمقراطية، مع تأكيد تأطيرها بإطار إسلامي يضمن عدم الوقوع في مخالفات شرعية. وعليه فإنه من المكابرة بمكان أن تسعى بعض الأقلام العلمانية إلى أسلوب الغمز واللمز تجاه الإسلاميين وموقفهم من الديمقراطية
العدد 343 - الخميس 14 أغسطس 2003م الموافق 15 جمادى الآخرة 1424هـ