تعتمد الدول الغربية كثيرا على تلك الدراسات التي تقدمها مراكز البحوث والدراسات المتنوعة سواء أكانت اقتصادية أم سياسية أم اجتماعية، كما وأنها تصرف أموالا كثيرة على ذلك، ولعل سر تقدم الغرب في فهمه لمجتمعه ولطبيعة وأسباب الإشكالات السياسية والمشكلات الاقتصادية التي يمر بها هو الاعتماد في تشخيص الداء والعلاج عبر مثل هذه المراكز البحثية. وعادة ما تكون هناك معايير خاصة تقييمية يقيّم من خلالها البحوث، وكذلك يتم انتقاء الكوادر العلمية المؤهلة في مثل هذه المراكز فهي ليست خاضعة للمحسوبية أو النسب أو العلاقات.
يتم اختيار الباحثين والكادر الوظيفي عبر معايير علمية ولا يتم اختيارهم إلا بعد تجاوزهم مراحل من العمر العلمي والإنتاج المعرفي وبعد أن يقضوا حياة طويلة في كتابة البحوث والدراسات وبعد أن ينالوا شهرة علمية تعكس متانة خاصة لما انتجوه في حقول المعرفة والعلم، لذلك نجد ان مثل هذه المراكز تحظى باهتمام واسع ويكون لدراساتها صدى كبيرا في أوساط المثقفين والعلماء والمعسكرين بخلاف ما هو جارٍ في عالمنا العربي فقد أصبح الكثير من مراكز البحوث أشبه بمكاتب قديمة لبيع الكتب أو هي أقرب إلى الارشيف وتصوير الدراسات منها إلى مواقع للبحث العلمي.
تمر على عالمنا العربي العشرات من الدراسات فلا ينظر إليها لما تحمله من ضعف وتأدلج وأحكام مسبقة مسيسة وأحيانا تحمل نزعات عصبوية أو شوفينية تعكس مدى الثقافة المسطحة والأحادية في التعاطي مع القضايا الحساسة والخطيرة في حين لو انا قمنا بالنظر إلى دراسة هنتكتون في كتابة «صدام الحضارات» أو دراسة فوكاياما في كتاب «نهاية التاريخ» أو الدراسات التي قدمها تعوم تشومسكي أوبول فندلي - على رغم تحفظنا على بعض نتائجها - لوجدنا المفارقة الكبرى بين هذه الدراسات وغيرها، مما توزع يوميا على طول عالمنا العربي بطريقة استهلاكية ولم يعرفهم الجمهور ولا بكتاب واحد أو دراسة واحدة!
مشكلة مثل هذه المراكز انها تعطي أموالا لكنها تفتقد إلى الكوادر العلمية المتميزة، إذ يتم في كثير من الأحيان اختيار الباحثين بمعيارية العلاقة والنسب لا معيارية الكفاءة، لذلك تكون مثل هذه الدراسات باهتة وتفتقد الصدقية لأنها تنتج لا لتضع يدها على مواضع الخلل للمشكلة التي يراد دراستها بل كثيرا ما تأتي على طريقة القراءة الانتقائية والاحادية الخالية من ضرب المصاديق ولغة الأرقام والبوح بالاسباب ومن ثم وضع النتائج. طبعا هذا لا يعني ان العالم العربي يخلو من مراكز علمية أو دور للدراسات والبحوث مازالت تقدم دراسات متقدمة مثل مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية إذ اصبح لهذا المركز صدى كبير، وذلك لما يقدمه من عطاء علمي ودراسات جدية موضوعية. ولعل سر تفوق وشهرة هذا المركز امتلاكه كفاءات كبرى عالية ومن الوزن الثقيل ساعدت على بروزه إلى حد تهافت المثقفين وأصحاب الانتلجنسيا العربية للتزود منه. أما مركز دراسات الوحدة العربية فقد قدم دراسة قيمة للديمقراطية الاردنية للدكتور علي محافظة وضعها في كتاب أسماه «الديمقراطية المقيدة». كانت الدراسة موفقة لأنها ارتكزت على مرتكزات علمية بعيدا عن النظرة الشوفينية.
طبعا حتى تلقى أية دراسة رواجا فعليا إضافة إلى صدقية علمية يجب أن يمتاز مقدمها بالصدقية، فمن الأمور التي عيبت على بعض الباحثين العرب في مصر أنهم كتبوا في الفساد وهم من أشد ممارسيه.
ومن المفارقات الكبرى التي حدثت في جنوب افريقيا ان من يمارسون الآن التنظير العلمي ضد الفساد أو النزعات الشوفينية هم كانوا يمارسونه في يوم من الأيام وهنا يقع مثل هؤلاء الباحثين في أزمة (شيزوفرينيا) حادة
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 343 - الخميس 14 أغسطس 2003م الموافق 15 جمادى الآخرة 1424هـ