كعادته كان لطيفا وكعادته كان مهذبا وكعادته كان صوته هادئا وبعيدا عن لهجة النرفزة هاتفني وهو يقول: «لك مطلق الحرية في إبداء كل ملاحظاتك ولك مطلق الحرية لتبدي رأيك، ولكني أود فقط أن أوضح بعض الأمور التي ربما غابت عن ذهنك وأنت تسجل استنكارك في مقالك... أشياء يجب ألا تغيب عن ذهنك»، وبدأ من النقطة الأخيرة اذ قال: «ليست هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها إيران فقد أقمت فيها في مرحلة دراسية أكثر من خمسة أعوام؛ بمعنى أن زيارة الاستجمام ما كانت لتغير من لهجتي»، وكأنه يود بذلك أن يذكرني بأن ما يجري من تصعيد هو من أجل تهدئة الشارع البحريني لا من أجل تهييجه فلو لم تتبن الجمعيات السياسية رغباته وهمومه فقد يخرج عن السيطرة وخير لمملكتنا أن يبقى الشارع تحتويه الجمعيات بطرح مشكلاته من أن يشعر أنه من دون قيادة أو من دون ضبط حتى لا يخرج عن طوره فيخرج بشكل غير منظم وبالتالي يقوم بأشياء خارجة عن دائرة المنطق وعن دائرة المعقول وربما تستغل ذلك بعض الجهات التي لا تريد الخير لهذا الوطن ولا تحب له أن يعيش في ظل استقرار سياسي يرفرف عليه الأمن والأمان.
ومن هنا فإن التصعيد في اللهجة يساير مستوى تصاعد وتيرة صوت الشارع البحريني واستيائه العام في البلاد وعندما سألته: «هل فاتحتم القيادة الجديدة بمدى خطورة ما يجري؟» قال: وبالتاريخ، غير أن أذني لم تلتقط جيدا إنما كل ما فهمته والتقطته أذناي أن ذلك حدث أكثر من مرة والقيادة علمت بذلك، وقال: ذكرت شخصيا خطر انعكاسات هذا الوضع لكن لم يتم أي حل على أرض الواقع وعلمت ما معناه أن مشكلة التجنيس السياسي أو العشوائي التي شملت آلالاف الذين هم من خارج دائرة القانون ولا تنطبق عليهم المعايير المعروفة هي التي سببت القلق للشارع البحريني ومازالت تسبب هذه البلبلة لفكره والخوف منها لأنها تمس قوت شعب تضيق حلقات العمل عليه وقلة الوظائف أمام هجمة اتساع طابور البطالة في بلد مخرجات التعليم فيه ولله الحمد كثيرة؛ فشعب البحرين دون غيره من أبناء الخليج يكاد يكون في أعلى سلم المحتاجين إلى العمل مع شحه، ومع العجز المتزايد لمؤسسات الدولة والقطاع الخاص في تلبية حاجاته، ما ينذر بخطر الانفجار.
أما قضية التجنيس القانوني فلا أحد يقف في وجهها بحسب رأي الشيخ علي سلمان فهذا حق، ونشد على يد الملك والقيادة الجديدة لحلها ووضع حد لمأساة الأوضاع الشاذة لمن كنا نسميهم «البدون» بل إننا نحن الذين كنا نطالب القيادة بوضع حل لهذه المأساة - على حد تعبير الشيخ علي سلمان - فهناك الكثير ممن كانوا يستحقون؛ لوجود قرائن ثابتة ومع ذلك فالذي حدث أن الكثير من هؤلاء مازالت قضاياهم معلقة بينما من لا يستحقونه قانونا يحصل عليه بسبب هذا التلكؤ في تحقيق مطالب من يحق له ذلك شرعا بينما من يأتي اليوم يحصل هو وأبناؤه من دون أي تأجيل أو تأخير الهوية المطلوبة بل ربما الوظيفة علما بأن الكثير من هؤلاء الذين عملوا سواء في قوة دفاع البحرين أو الداخلية أحرجوا الجهات التي يعملون فيها على غرار أولئك الأشخاص ممن اتضح أن عددا منهم يستلف من عدة مصارف على ضمان وظيفته ثم يغادر البلد من دون رجعة. فهل يكون لمثل هذا الإنسان أي ولاء لهذا الوطن؟ فأنت حين تعطي الهوية لأي شخص يجب أن تراعي الكثير من الأمور منها: حاجة البلاد، وضع البلد في مجال العمل، قانونية الوضع، مدى الاستفادة منه. أما أن يأتي التجنيس هكذا من دون ضبط أو ربط ومن دون قانون يستند إليه وسط شعور بالخوف لدى الشارع البحريني العاطل عن العمل فإنه يعني استفزاز المواطن الذي يعيش اصلا وضعا مأسويا لا يليق بدولة نفطية كان يجب أن يعيش شعبها في رفاهية أكثر وحال أفضل منذ سنوات أسوة بجيرانه. وقد لا نلوم القيادة الجديدة على تحمل كل هذه المسئوليات عن تركة ثقيلة ناتجة عن فساد مالي وإداري بل وأخلاقي طويل بدأ بإغلاق المجلس النيابي وإيقاف العمل بدستور العام 1973 الذي كان من المحتم لو استمر أن يضع البلاد في مرحلة تاريخية مغايرة تصب في التجاه الافضل اذ كانت كل المؤشرات تؤكد أن هذا الدستور سينتشل المواطن من بؤسه ويجعله إنسانا راضٍ بما قسم الله له مادام يرى أن هناك توزيعا عادلا للدخل المتوافر بين يدي الدولة؛ فالشعب البحريني كما هو معروف عنه شعب طموح غير أنه واعٍ ومدرك لما يجري حوله ويعرف إمكاناته وليس طماعا تدل عليه آثار الجشع. هذا من محاسن حظ القيادة البحرينية التقليدية التي جعلت هذا الشعب صبورا يتحمل أكثر بكثير من جمال الصحراء فلم يثر منذ بدايات إيقاف العمل بالدستور، والدستور نفسه يعطيه الحق في إعادة برلمانه بعد شهرين شاءت الجهات المسئولة أم أبت واستمر يعاني الأمرين من ضنك في العيش وقانون طوارئ جائر يكتم أنفاسه، فقد كان سيف قانون أمن الدولة وراء خنقه، إضافة إلى صفة الصبر التي اتسم بها هذا الشعب الطيب، ولم يثر إلا بعد أكثر من ربع قرن عندما انتهت طاقته، ساعتها اضطر إلى أن يقوم بما كان في إمكانه أن يفعل سواء من خلال النضال السياسي أو النضال الثوري بالمواجهة، ما يكشف أنه شعب قادر على المواجهة، وقادر على التضحية، وقادر على دفع ضريبة التغيير مهما كلف ذلك وجاء جلالة الملك بخطابه المغاير وأعلن عن إصلاحاته وتفاءل المواطنون كثيرا وتحول غضبهم فرحا ما دفعهم إلى أن تخرج منهم حتى المرأة القروية من عقر دارها، لتقول نعم لميثاق العمل الوطني، الذي طلب جلالته الاستفتاء عليه كعربون مصالحة فجاءت النتيجة 98,4 في المئة، وهذه شهادة لا يمكن الطعن فيها أو التشكيك بها لإثبات محبة المواطن لقائده الجديد وثقته فيه.
وعلمت بقية ما كان يدور في ذهن الشيخ علي سلمان إذ كان يود لو يقول: أنت أعلم بسلسلة الإحباطات التي حصلت من تغيير مفاجئ من الطموحات والآمال التي كان يطمح لها المواطن البحريني ومع ذلك تحمل الشارع البحريني على اعتبار أن الإصلاحات التي حدثت ستزداد اتساعا وأنه ربما حدث ما حدث لظروف إقليمية أو دولية أو لظروف خارجة عن إرادة القيادة الجديدة. وكل ما فعلته القيادات السياسية لإرضاء الشارع وتسكين همومه وآلامه لما جرى بأن أبدت ملاحظاتها في صمت ومن دون أي ضجيج لتسجل موقفها على مجمل ما حدث فلم تشارك لا في الترشح ولا في الانتخاب واتضح لقيادتنا مدى أهمية هذا الموقف وقوة الشارع البحريني وجمعياته السياسية عندما لم تتمكن الحكومة بكل مغرياتها أن تحقق نسبة في التصويت لصالحها لا تزيد عن اثنين أو أربعة في المئة عن النصف وهذا يكشف أمرا واحدا لا ثاني له أن الشعب لم يكن راض عما حدث.
ومع ذلك ظلت الأصوات هادئة واللهجة تتسم بخيبة الأمل من دون ضجيج ولم تتغير اللجهة إلا بعد بروز عدد من المراسيم التي شعرت بها الجمعيات السياسية الموكلة بتحمل مسئولية الشارع البحريني ومصالحه بالخطر إلا بعد عملية التجنيس السياسي والتجنيس المزدوج.
فقد شعر بالنسبة إلى الأولى بأنها تشكل خطرا على مصدر أبناء البلد ومشاركة أناس لا حق لهم قانونا بمضايقته في لقمة عيشه، ومدى ما يؤثر القادم الجديد غير الشرعي للضغط على كثير من مؤسساته الأخرى كالصحة والتعليم والإسكان وغير ذلك ما جعله يرفع من وتيرة صوته ولهجته في تسجيل مواقفه، ولكي تؤكد للدولة أن الشعب يعد طعام كل تمرة غير قانونية يبتلعها المسئولون عن تشجيع هذه العملية. كانت تلك الندوة التي أقامتها أخيرا الجمعيات الست بالمنامة وكشفت بالأرقام وبالصوت والصورة ما يفرض على القيادة العليا أن تعتز بهذا الشعب ومثقفيه الذين لهم من الطاقة والقدرة والنفس الطويل القيام بعمل ما يشبه بوضع محاكم للأخطاء المرفوضة من القيادة وسط الميدان.
وكأني بالشيخ علي سلمان يقول لي: «أنا في اعتقادي أن من حق جلالة الملك أن يعتز بشعبه ويفخر به لهذه الطاقة المتميزة ولا يغضبه»، وهذا ما حدث فعلا فجلالة الملك كما اتضح فيما بعد من خلال تصريحاته الأخيرة التي تلت الندوة الموسعة كرر في أكثر من مناسبة رغبته في مواصلة عملية التصحيح وإيمانه بضرورة التغيير وبضرورة إضافة المزيد من الإصلاحات إلى المسيرة التي بدأها ويصر على استمرارها، ما يكشف أنه ليس على استعداد إطلاقا لأن ينزعج عما يبديه إخوانه وأبناؤه في الشارع البحريني بجمعياته السياسية ومثقفيه لهذه الملاحظات.
وفي اعتقادي الشخصي المتواضع أن قائدا مثله ليس على استعداد لأن يخذل شعبه، فقد قام بالمسيرة الإصلاحية من خلال قناعة من جلالته ومن يفعل شيئا من خلال قناعته ووعيه بأهمية ما يفعله فهو لن يتراجع على الإطلاق، ولهذا فقد آن الأوان للقيادة الجديدة أن تنهي هذه الأزمة التي حدثت من خلال البحث عن وسائل قانونية كفيلة بإرضاء الشعب الذي يحبه، ذلك الشعب الذي سار وسطه في سيارته المكشوفة بين طرق وشوارع القرى وهو يهللون ويكبر ويرقص فرحا لقائده الذي جاء ليحقق كل طموحاته.
إن ما يجري - بحسب ظني مرة أخرى - أن هناك سوء فهم ومن حق الجمعيات السياسية أن ترفع إلى القيادة الإصلاحية هموم الشارع بشتى الوسائل من أجل المصلحة العامة ومن أجل ألا يترك الشارع يتصرف بحسب هواه. وحتى لا يستغله من يشاء لتوجيهه الوجهة غير الصحيحة تقوم الجمعيات بمحاولة إيصال آماله وآلامه إلى القيادة العليا ولتهدئة خاطر هذا الشارع من خلال هذه الندوات الواسعة وتأكيدا لصحة ما يقوله رئيس جمعية الوفاق الإسلامية الشيخ علي سلمان فإنه ألمح إلى مدى إحساس المواطن البحريني بالغبن في قضية التجنيس السياسي وخطورته عليه... ذلك العدد الذي جاء ليشارك ويستمع لقياداته في الجمعيات الست والذي قدره الكثيرون بأكثر من عشرة آلاف شخص.
أما عن حديثه بشأن وجود أكثر من مئتي ألف بحريني في المحمرة فقال رئيس جمعية «الوفاق» ما معناه إنه لم يفعل ذلك كعملية تهديد أو تحد، بل للتوضيح فقط أنه لو تم فتح الباب لهؤلاء فأولئك أحق ولو حدث ذلك فعلا لغرقت البلاد في مشكلات لا يعرف مداها إلا الله وانه لم يذكر ذلك إلا كمثل على مدى خطورة ترك هذه القضية الحساسة والخطيرة للمزاج من دون دراسة أبعادها وانعكاساتها... لو تم فتح الأبواب من دون حدود، ولم يكن يقصد بذلك التهديد أو التحدي، على اعتبار أننا جميعا نعمل مع القيادة العليا من أجل بناء هذا الوطن وتنميته لينعم الشعب والقيادة باستقرار سياسي من خلال علاقة ود ومحبة واحترام متبادل.
أنا أعتذر للشيخ علي سلمان إن كنت قد نسيت بعض ما ذكره لي على الهاتف ومن حقه علي أن أشد على يديه على سعة صدره وتقبل ملاحظاتي بقلب مفتوح فقد أضاء لذاكرتي جوانب كثيرة عبر الهاتف، وكان عتابه يقع ضمن دائرة ضيقة هي استعجالي في بعض الأمور وعدم التحقق والتعمق في تفسيري لها وخصوصا عندما ذكرت أن تصعيد الموقف وتغيير اللهجة قد جاء بعد زيارة الشيخ للاستجمام، وطبعا كنت أمزح إذ لم أكن أعلم إلى أين سافر شيخنا الجليل، وقال ما معناه: «إن ولائي لهذا الوطن ولن تجد أي فراغ في قلبي لغيره، لكن حين يرتفع صوتي وتتغير لهجتي فهذا يعني انني في أعلى دراجات الإحساس بالألم لما يجري في الساحة وفي أكثر درجات الشوق لوضع حد لمعاناة أبنائنا من منطلق الحب الخالص لهذا الوطن ولاستقراره السياسي»
العدد 341 - الثلثاء 12 أغسطس 2003م الموافق 13 جمادى الآخرة 1424هـ