نشر أن بعض المسئولين السياسيين الأميركان اشتكوا من بعض ما تذيعه محطات تلفزيون عربية عن العراق، واعتبروا بعض ما يذاع تحريضا ضد القوات الأميركية هناك، وكانت ردة الفعل الأولى من لدن كثير من المعلقين العرب، وخصوصا ذوي العلاقة بالفضائيات، هي طرح هذا السؤال: كيف تشكو الإدارة الأميركية من عمل كهذا، في الوقت الذي تدعو فيه جهارا إلى توسيع حرية تداول المعلومات، بوصفها جزءا من دعوتها الواسعة إلى الديمقراطية وترسيخها في المنطقة العربية. كما أنهم يعيشون في مجتمع من المفروض أنه شفاف ومفتوح، تتداول فيه وسائل الإعلام أخص الخصوصيات؟
من جهة أخرى، تخوض الحكومة البريطانية مع هيئة الإذاعة البريطانية (التي هي نظريّا ممولة منها) صراعا ظاهرا قد يطيح في المستقبل بحكومة طوني بلير، أو على الأقل يضعف إمكان عودة حزب العمال إلى الحكم في أول انتخابات مقبلة. والصراع يحتدم على قضية عالم الأسلحة البريطاني ديفيد كيلي، الذي أنهى حياته بيده أخيرا، بعد إدعاء انه سرب أسرارا، تقول هيئة الإذاعة البريطانية انه هو الذي مررها إلى أحد مراسليها بشأن خلفية ملف أسلحة الدمار الشامل في العراق، واعتبرت الحكومة البريطانية ذلك التسريب (الإعلامي) إفشاء سر خطير من أسرار الدولة، التي يجب تحت أي ظرف ألا تذاع أو تنشر.
موضوع كيلي وموضوع المحطات العربية التلفزيونية، وخصوصا ما تنشره وتذيعه عن العراق، هو نفسه من حيث المبدأ، وان اختلفت التفاصيل، يضع المراقب في حيرة من أمره، وخصوصا ذلك الذي يرى أن (حرية الإعلام والوصول إلى الحقيقة) حرية مقدسة في عالمنا المعاصر، من دونها تختفي الحقائق، وتُزيّف المواقف، وتُرتكب الجرائم في الخفاء.
ولكن أين الخط الفاصل بين حرية تداول المعلومات حتى يبقى الرأي العام مطلعا ومراقبا، وبين إفشاء الأسرار، أو (اختلاق) معلومات غير صحيحة، الذي يقود إلى التضليل أو سقوط الضحايا؟
وإن كانت قضية ديفيد كيلي أصبحت قضية ذات شأن كبير في الساحة السياسية البريطانية، فلم يلتفت إليها كثيرون في فضائنا العربي، بسبب نتائجها المحدودة على أحوال العرب المباشرة، فإن الموقف من فضائياتنا العربية يختلف، ويطرح عددا ليس بالقليل من الأسئلة الأخلاقية والمهنية.
السؤال المركزي: هل الشكوى الأميركية ناتجة عن تذمر الإدارة الأميركية من إظهار (الحقيقة) للجمهور العربي، كما تراها بعض الفضائيات العربية، أم أن الشكوى ناتجة عن عدم (التدقيق في إظهار الحقيقة) كما هي أو كما تراها الإدارة من زاوية فهمها للحوادث الجارية في العراق، أو كما تمارس (إظهار الحقيقة في الواقع العملي الأميركي) بأن هناك دائما رأيا، ورأيا آخر مضادا له؟ وتظهر الحقيقة عندما يتصادم الرأيان أمام الناس، أي من حيث المهنية الإعلامية؟
محاولة الإجابة عن هذا السؤال هي التي تقدم إلينا مقاربة لهذا الموضوع المعقد، وهنا تبرز مجموعة من الموضوعات، لعل أولها (المهنية) التي يتحلى بها كثيرون من منفذي البرامج المختلفة في المحطات التلفزيونية العربية، أو (عدم المهنية). بمعنى أننا نرى أن هناك تزاحما على نقل ما يحدث في العراق اليوم من أخبار وحوادث، وذلك طبيعي لأن الموضوع ساخن والكثير من المشاهدين العرب يريدون أن يعرفوا ماذا يحدث هناك. إلا أن البعض في أسلوب نقل الحدث، يخرج عن (المهنية) الصارمة (إن توافرت له) فيضيف على الحدث الذي يريد نقله (رأيه) الشخصي، فيختلط الرأي بالحدث، ويتشوش عقل الجمهور المتلقي.
وأذكر إبان الحرب الأخيرة على العراق، وكان البث من بغداد مراقبا بصرامة من السلطة البعثية العراقية، أن وصف أحد المراسلين وقوع صاروخ على موقع في بغداد، وقال إن السلطة العراقية وصفته بأنه صاروخ، فقالت المذيعة وبإصرار تحسد عليه إنها قنابل عنقودية حارقة، واستمر الشد بين الاثنين لدقائق. في أخبار الفضائيات الأخرى ذات المنحى المهني العالي للمشغولين بالمهنية، يقول المعلق في محطة البث، إننا ننقل من بغداد، ونلفت النظر إلى أن النقل من هناك خاضع للرقيب العراقي! أي ان مراسلنا لا يستطيع أن ينقل كل ما يريد أن يقول.
في عدد غير قليل من ناقلي الأخبار من بغداد، تلاحظ هذا النقص في المهنية واضحا لمن يتابع بدقة، وهو نقص في (المهنية) على أقل تقدير، إذا تجاوزنا القول إن (الموقف المسبق والجاهز) للكثير من هؤلاء المراسلين لقلة خبرتهم، يقرر ما ينقلونه إلى المشاهد، أو ربما هم يستجيبون إلى تعليمات محرر النشرة الاخبارية، حتى تبدو للجمهور المسكين (ساخنة) بما فيه الكفاية لشد أعصابهم، وربما إعجابهم.
وفي المهنية لابد من الحديث عن الدافع الأخلاقي والمهني لإظهار بعض أفراد عائلة الرئيس العراقي المخلوع والمختفي عن الأنظار على شاشات التلفزيون، ليتحدثوا بما يريدون. السؤال هو: حدث أن اختفى عدد من المسئولين العرب لسبب أو لآخر عن عواصمهم في عز قوتهم السياسية، فهل يستطيع أن يقرر مسئول نشرة اخبارية أن يقابل - مثلا - زوجة حسن الترابي في السودان، حتى تقول رأيها في الوضع القائم هناك؟ أو أية أمثلة مشابهة، وهي كثيرة في عالمنا العربي.
نستطرد مع (المهنية)، فالحديث في الكثير من فضائياتنا العربية عما يحدث في العراق من قتل للجنود الأميركان أو تفجيرات هنا وهناك، يشير إلى ذلك، بأن من يقوم بهذا الفعل هم (المقاومون للاحتلال) بل إن البعض يفرض علينا صراخ مجاميع صغيرة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، ويقولون لنا بوصفنا مشاهدين، إن هؤلاء (المقاومين) هم عراقيون يريدون (تحرير بلدهم)، وإذا افترضنا ذلك وربما هو غير صحيح لأن لهجتهم تبدو في بعضها غير عراقية، هل يتسنى لمتخذي القرار في تلك الفضائيات أن يسمعونا - مثلا - (أشرطة لبعض حلقات الإرهاب) التي تعبث بالأمن في طول بلادنا العربية وعرضها؟ إذا كان الجواب بالنفي فلماذا العراق إذن؟ لماذا لا يكون السودان، أو أيّا من البلاد العربية التي تعج بأمثال هؤلاء، إن كان المانع أخلاقيّا أو سياسيّا أو مهنيّا، فلماذا لا يقاس بما يحدث في العراق؟
هنا يأتي غضب معظم العراقيين على ما يذاع عن بلادهم، انه انتقاء مضر للحوادث، ووجدنا بعض نتائجه في الأسبوع الماضي عندما فجرت السفارة الأردنية في بغداد، وراح ضحية ذلك العمل المجنون مجموعة من (العرب) العراقيين والأردنيين. كنت، بوصفي مشاهدا، أتمنى أن تلحق لقاء ابنة صدام حسين، حلقة نقاش من خبراء، لتحليل ذلك اللقاء والتعليق عليه. بذلك يكون البرنامج أدى غرضه كحد ادنى بتوازن، أما أن تترك المتحدثة لتقول ما تشاء من دون مراجعة أو تحقق، فهو فشل مهني، فجر كل التعليقات السلبية الغاضبة التي قرأناها بعد ذلك.
في عدد من بلاد «العالم المتحضر»، وصلوا إلى نتيجة مفادها انه من حق الحاكم أن يحكم ومن واجبه أن يُعلم. فهناك مرجعية للمهنة الإعلامية دقيقة وواضحة، وهي التي تؤكد أن يكون الإعلامي حرّا فيما يذيع وينشر، ولكنه مثل بقية الحريات مقيد لا مطلق الحرية. الإعلاميون في تلك البلاد مقيدون بقيود أخلاقية ومهنية عالية المستوى. ويكفي أن نقرأ مثلا (ميثاق الشرف الإعلامي الفرنسي)، وهو ميثاق صدر في بداية القرن الماضي وجدد قبل الحرب العالمية الأولى، أو نطلع على (ميثاق التعامل الإعلامي في بريطانيا) من بين وثائق كثيرة في هذا العالم الواسع، الذي يقيد عمل الإعلامي، كما يقيد عمل السياسي. باطلاعنا على تلك الوثائق نعرف أي نوع من المسئولية ملقاة على عاتق الصحافي، ممثل السلطة الرابعة كما يشار إليه دائما.
تلك الوثائق تؤكد استقلال السلطة الإعلامية مع نزاهتها، وعندما تفقد النزاهة، تفقد الوسيلة الإعلامية مبررات وجودها باعتبارها مدافعة عن الحق العام.
في تلفزيون (سكاي) في بريطانيا زور أحد الصحافيين تقريرا عن إطلاق صاروخ بحر/ ارض من إحدى الغواصات البريطانية إبان الحرب الأخيرة، وكشف التزوير أحد الصحافيين في هيئة الإذاعة البريطانية (أي أن الإعلام شاهد ومراقب على نزاهة الإعلام). فما كان من المحطة التلفزيونية إلا أن فصلت ذلك الصحافي، واعتذرت للجمهور، ووعدت بألا يكرر من يعمل معها ذلك في المستقبل. أما فضيحة صحيفة «نيويورك تايمز» فهي معروفة، إذ شُهر بالمحرر الذي ادعى مقابلة أسرة الأسيرة الأميركية التي وقعت في أيدي القوات العراقية وتم تحريرها، ودفعت الصحيفة ثمنا باهظا لذلك التزوير من سمعتها، واستقال كل من مدير التحرير ونائبه، اللذين أوصلا الصحيفة إلى نجاح لم تعرفه. وعلق اصحاب الصحيفة بأن مصلحة مؤسسة عظيمة أكبر من مصلحة الأشخاص الذين يديرونها.
لا أريد أن يخرج القارئ بانطباع أن (المهنية) غير مخترقة في وسائل الإعلام الغربي، ولا أريد أن يخرج بانطباع آخر بأن (الإعلام الغربي) كامرأه قيصر، لا يتطرق إليه الشك. فقط أريد أن أؤكد أن هناك مرجعيات للمحاسبة، دقيقة ولها سبلها المستقلة في تحقيق حد أعلى من الصدقية، نفتقدها في ممارستنا الإعلامية. كما أني لا اعتقد أن وسائل الإعلام في هذا العالم الذي نعيش غير موجهة، إنما الصحيح أن بعض هذه الوسائل موجهة بشدة وبسذاجة أكبر من الأخرى، كقول جورج أورول المشهور في عالم الحيوان «كل الحيوانات متساوية، ولكن بعضها متساو أكثر من الآخر»!
لعل التنافسية غير المهنية وغير المبنية على مشروع واضح لما تريد وسيلة الإعلام العربية أو لا تريد تحقيقه، تجعلها ضحية لرأي العوام، وما يعتقد المسئولون فيها انه مطلوب كي يقلل من الاحتقان لدى الشارع العربي أو يزيده سوءا. وهي أهداف سلبية تجري وراء الانتشار وليس (الإعلام) في المعنى الإيجابي.
تلك منهجية (الإثارة) التي قد توصل بعضنا إلى الانصراف عن تلك الوسائل والاستعاضة عنها بوسائل أخرى
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 340 - الإثنين 11 أغسطس 2003م الموافق 12 جمادى الآخرة 1424هـ