العدد 340 - الإثنين 11 أغسطس 2003م الموافق 12 جمادى الآخرة 1424هـ

إعادة تلميع الطغاة... وذمة التاريخ

«كل فتاة بأبيها معجبة»

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لا غرابة في أن تتكلم رغد ابنة صدام حسين عن الأب المثالي الرؤوف الرحيم بعائلته، فقد كان ستالين الذي قتّل الملايين وهجّر الملايين رؤوفا مع عائلته. ولا عجب في أن تتكلم عن أبيها وكأنه فارس الفرسان، فـ «كل فتاة بأبيها معجبة» كما يقول المثل العربي القديم... ولكن من العار أن تقع الفضائيات العربية في المحظور، فبينما تهرول لتسجّل سبقا إعلاميا تقوم بإعادة تلميع الطغاة ورد الاعتبار إليهم قبل أن تجفّ دماء الضحايا على قارعة الطريق.

وعند قراءتك التاريخ العربي تصطدم بنوعين ممن يتعاملون مع سير الطغاة: النوع المعاصر المستفيد المتمصلح، والنوع اللاحق الآتي بعده بقرون فيقرأ قصصه و«مآثره» مما خلّفه الأولون ليقوموا بإعادة تلميع عهده. وهو مطبّ وقع فيه بعض الكتاب الذين رفعوا عقيرتهم بإنصاف أمثال هارون الرشيد «الخليفة المجاهد»، أو يزيد بن معاوية باعتباره الخليفة المفترى عليه. بل ان كاتبا كبيرا وأديبا لامعا مثل شاكر مصطفى لم يسلم من الوقوع في المطبّ ذاته عندما «عسعس» في دهاليز التاريخ المظلم فخرج مبتهجا بالجانب «الرمادي» من شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي، من شقّ الأنهر وتنظيم الري والجباية وما شابه، ونسي كيف قتل روح البلاد وأذلّ العباد. ويكفي مطلع عصره الأسود الذي افتتحه بارتقاء المنبر في أول يوم تسلّم فيه السلطة وأخذ يتبجح بمشاهدة «الدماء التي تترقرق بين العمائم واللحى»، ويتغنى بـ«الرؤوس التي أينعت وحان وقت قطافها»، وهو المنهج الذي سار عليه خلفه الامين صدام حذو القدة بالقدة... حتى ضمن لنفسه كرسيا في مجلس حكم الطغاة عبر التاريخ، إلى جانب هتلر وموسوليني وباتيستا وإيان سميث وبوكاسا... والقائمة تطول وتطول...

ومن الطبيعي أن ترتع طوابير من الخدم في قصر كل طاغية، ومن الطبيعي أن تلهج ألسنتهم بالثناء الحسن عليه. وتجد في هذه الطوابير صفوفا من المطربين والمغنين والشعراء والمتسلّقين والكتّاب يجمعهم خيط النفاق. وقلما تجد فيهم شخصا مخلصا لغير المال، فإذا سقط «وليّ النعمة» انقلب على سيده، وهو ما نراه اليوم رأي العين، إذ يحاول سكرتيرو وسكرتيرات وخدم صدام وأبنائه على الفضائيات غسل الدم من ملابسهم الملوثة، وكل منهم يحاول أن يبريء نفسه ويسوّقها باعتبارها ضحية أخرى من ضحايا إرهاب الطاغية، بعد أن عاشوا جميعا عقودا من الزمن في بحبوحةٍ ونعمةٍ ورفاهية. وكان صدام كريما -والحق يقال- مع عشيرته وطوابير المتكدّسين على بابه، إذ كانت توزّع أعطياته على بقاع الأرض المختلفة، حتى هنا أصاب البعض منها إلى أن توقفت مع إغلاق مصرف الرافدين، فانقطعت «مؤونة الشتاء والصيف» فجفّت الأقلام وطويت الصحف!

وصدام الذي سفك من دماء أبناء الشعب العراقي أنهارا على مذبح حكمه وديكتاتوريته، لو قيّمه التاريخ فلن يكون حجمه الحقيقي أكبر من رئيس عصابة تمكن من القفز إلى السلطة في غيبة من إرادة الشعب، لم يختره الناس ولم يصوّتْ له أحد، وحتى عندما كان ينظم مسرحية الانتخابات على الطريقة العربية «الساداتية» المألوفة لم يخجل من القول انه حاز 100 في المئة! كل ما هنالك انه جاء على إثر توافق بين القوتين العظميين، وظل خادما نموذجيا مخلصا في هذا الإطار. كان حجرا على رقعة الشطرنج، عندما تجاوزته المصالح الغربية رمي به في المزبلة. ومع الأسف أننا نشهد اليوم مشهدا مسرحيا مقززا، إذ لم تجف دماء ملايين القتلى العراقيين بعد حتى بدأت مبكرا، ومبكرا جدا، حملات إعادة ردّ الاعتبار إليه، ليقدم في لباس الضحية في ظرف ثلاثة أشهر بعد ان عاش يقدم نفسه قائد جيش القدس. والبركة هذه المرة في الفضائيات العربية التي تقدمه وعائلته في دور الضحية بعد زن عاثت في الزرض فسادا، وتنصب من ابنته الكبرى شاهدا أول على عصر التزوير الأكبر

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 340 - الإثنين 11 أغسطس 2003م الموافق 12 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً