ضاقت أميركا بأزمة العراق، وضاقت أزمة العراق على أميركا، بعد أشهر قليلة من بداية الغزو والاحتلال.
وها هي السياسة الأميركية تبحث عن مخرج من أزمتها، أو بمعنى أدق من ورطتها في العراق، التي لم تحسب حسابها، بعد ان استسهلت استخدام قوتها العسكرية الساحقة، في غزو دولة اخرى، وفرضت قانون القوة على الجميع، وأهانت الأمم المتحدة ودمرت الشرعية الدولية وداست القانون الدولي، ولم تجد في مساندة شهوتها الجارفة للحرب سوى رئيس وزراء بريطانيا.
الآن... راحت السكرة واستحكمت الفكرة، فقد ابتهج الساسة الأميركيون بسرعة نجاحهم في احتلال العراق، وتملكتهم النشوة بعد اسقاط نظام صدام حسين بأسرع مما تخيلوا، لكن ذلك كله لم يكن إلا مجرد بدايات لا يعرفون نهاياتها، ولابد أن نذكر ان كبار المسئولين الأميركيين كانوا يرددون جملة واحدة تكاد تكون مقدسة، وهي ان الشعب العراقي بكل فئاته وطبقاته وافراده، سيخرج بالورود مرحبا بالقوات الغازية ومؤيدا لاسقاط نظام الطاغية، وكاشفا المخابئ السرية لأسلحة الدمار الشامل العراقية، موضحا حقيقة العلاقات الوثيقة بين نظام صدام ونظام طالبان الأفغاني وتنظيم «القاعدة».
وتحت هذا التصور المبسط تجاهل هؤلاء المسئولون الأميركيون نصائح الآخرين، وخصوصا نصائح بعض الدول العربية الاقرب إلى فهم حقيقة الاوضاع في العراق، ونصائح الدول الأوروبية، مثل فرنسا وألمانيا، المدركة لمخاطر حملة الحرب الانجلوأميركية على العراق، ونتائجها وتداعياتها التي لن تظهر إلا بعد هدوء غبار الحرب.
وها هي التداعيات تتالى، وها هي الإدارة الأميركية تعاني من نتائج التورط في المستنقع العراقي، مثلما مازالت مغروسة في المستنقع الأفغاني، وها هي العقول - بعضها على الاقل - تعود الى رشدها وتبحث عن مخرج، وقد تفتق الذهن أخيرا عن سياسة أميركية جديدة، تعمل على توريط دول أخرى - وخصوصا الدول العربية الرئيسية - في مشاركتها تحمل عبء مواجهة المقاومة العراقية التي تزداد يوما بعد يوم، والتي حولت الاحتلال الانجلوأميركي الى مصائد للموت.
سياسة أميركا الجديدة تقوم على محورين، المحور الاول هو العودة تدريجيا الى ساحة الأمم المتحدة، للحصول على قرار جديد بمشاركة الدول الاخرى في قوات حفظ سلام، تشارك القوات الأنجلوأميركية، وربما تحل محلها في المستقبل، بعدما تجاهلت الأمم المتحدة وهمشت قرارها وتجاهلت ارادتها، يوم قررت شن الحرب من دون شرعية دولية، وها هي الآن تحاول الحصول على غطاء دولي جديد.
أما المحور الثاني فيركز اساسا على الضغط - أو الاغراء - على دول عربية رئيسية، لإرسال قوات عربية مستقلة أو ضمن قوات الأمم المتحدة، لتعطي غطاء عربيا للاحتلال، ولتتحمل جزءا من مسئولية لم تشارك فيها بداية.
ولم يعد سرا ان السياسة الأميركية صعدت ضغوطها على مجموعة الدول العربية المقصودة، لانتزاع موافقتها على الدخول في هذه المخاطرة التاريخية، ليس بهدف اشراك العرب في صوغ «العراق الجديد» كما تدعي واشنطن، ولكن بهدف تصدير القوات العربية هذه لمواجهة المقاومة العراقية، ولتنفيذ السياسة الأميركية من خلال وجودها على الارض وفي المواجهات اليومية الدامية... تريدها درعا للحماية اذن.
كما لم يعد سرا ان عددا ضئيلا من الدول العربية المستهدفة، سارع بإبداء الترحيب بالدعوة الأميركية، بحجة ان هذه هي الطريقة الوحيدة للمشاركة في مساعدة العراقيين على اعادة بناء دولتهم بعد سقوط دولة البعث ونظام صدام القهري، بينما مازالت دول عربية أخرى مترددة او متوجسة من هذه الدعوى، لأنها تعرف ان الهدف هو توريطها سياسيا ومعنويا في اضفاء الشرعية العربية على الاحتلال الأجنبي للعراق، ومساعدة أميركا على الخروج من الورطة الدامية.
والحقيقة ان الموقف العربي الراهن مما يجري في العراق وللعراق، يمثل مأزقا في وجه من اوجهه الكثيرة، لأنه موزع بين رأيين أو اتجاهين، أولهما يرى ان أميركا وحليفتها بريطانيا، اخذتا الموقف في يدهما منذ البداية، واستأثرتا بما ترياه محققا لمصالحهما في غزو واحتلال العراق، وتجاهلتا آراء ونصائح العرب في غالبية الأمم، وعليهما ان تتحملا وحدهما الآن نتائج افعالهما وتتحملا وحدهما المسئولية كاملة.
وثانيهما يرى أن الأوان قد آن لأن يشارك العرب مباشرة في صوغ العراق الجديد، فها هي الولايات المتحدة الأميركية تدعوهم الآن - بعدما تجاهلتهم في السابق - إلى المشاركة الفعالة بدءا بإرسال قوات عربية لحفظ الأمن واقرار النظام الجديد، وبالتالي فمن الخطأ ان يظل العرب معزولين متباعدين عن العراق الجديد، متجاهلين التطورات السياسية الدرامية التي جرت وتجري منذ سقوط نظام صدام في التاسع من ابريل/ نيسان الماضي.
الاتجاه الاول ينأى بنفسه عن التورط، خوفا وحذرا أو ادراكا للنتائج السلبية لهذا التورط، والاتجاه الثاني يرفض منطق التورط والابتعاد، ويريد المشاركة التي فاتته في السابق، ربما بحثا عن مصالح وفوائد ومغريات أميركية كثيرة وجذابة!
وفي الحالتين فإن الضغط الأميركي اشتد، وسيشتد أكثر في الفترة المقبلة، وكلما زادت المقاومة العراقية من استنزافها للقوات الأميركية في العراق، وخصوصا ان بعضنا لا يدرك مدى تأثير توالي سقوط قتلى أميركيين يوميا على الرأي العام الأميركي، في وقت بدء الحملة الانتخابية للرئيس بوش في فترته الرئاسية الثانية.
وكان من الممكن للرئيس الأميركي بوش الابن وبطانته من متطرفي «المحافظين الجدد»، ان تأخذه العزة بالاثم، ويستمر في سياسة تجاهل ارادة العالم واهدار هيبة الشرعية الدولية، واحتقار النصائح العربية، كما فعل عند اتخاذ قراره المنفرد بشن الحرب ضد العراق، لولا انه يقترب بسرعة من موعد انتخابات الرئاسة، التي يريد من خلالها الفوز بفترة رئاسية ثانية، كاسرا مرارة تجربة ابيه بوش الأب، الذي خسر فترته الثانية أمام شاب مجهول آنذاك - بيل كلينتون - بينما كان هو - بوش الأب - خارجا لتوه من انتصار هائل في حرب تحرير الكويت من الغزو العراقي العام 1991.
والحقيقة ان هناك اسبابا كثيرة دفعت السياسة الأميركية أخيرا الى البحث الجدي عن الخروج من الورطة العراقية، او على الاقل التخفيف من حدة آثارها ونتائجها... أولها هو ما سبق ان ذكرناه من دخول عام الانتخابات، والرغبة في عدم استخدام الخصوم من الحزب الديمقراطي للآثار السلبية لهذه الحرب ضد الرئيس بوش، لتقليص فرص فوزه بالفترة الرئاسية الثانية.
وثانيها هو المأزق السياسي الاخلاقي الذي وقع فيه الرئيس بوش وادارته، بشأن فضائح مبررات الحرب، بعدما انكشف امام الرأي العام الأميركي والدولي مدى صدقية المبررات التي ساقها تحالف بوش - بلير، وخصوصا امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وعلاقة نظام صدام بتنظيم «القاعدة» بقيادة اسامة بن لادن، المتهم بهجمات سبتمبر/ ايلول 2001 الدامية ضد قدس الاقداس في نيويورك وواشنطن.
بعد أشهر من الغزو والاحتلال والحكم الأميركي المباشر، لم يعثر عشرات الآلاف من جنود الاحتلال على دليل يثبت صدقية هذه المبررات، فإذا بها تنقلب ضد اصحابها انقلاب السحر على الساحر، ما شغل حيزا مهما في تفكير الرأي العام الناخب الأميركي، تجاه كذب الرئيس ومساعديه وادارته، وكذلك كذب حليفه البريطاني بلير الذي يكاد يكون قد فقد فرصته في البقاء.
وثالثها هو الاثر السلبي العميق الذي تتركه انباء تتالي سقوط القتلى الأميركيين يوميا في ساحات المواجهة مع المقاومة العراقية التي تزداد قوة وقدرة... وبصرف النظر عن «الصاق تهمة المقاومة بصدام ومناصريه» بهدف اهدار وطنيتها حتى امام الشعب العراقي نفسه، فإن المؤكد ان الشعب الأميركي بات في قلق شديد على مستقبل ابنائه، الذين يقاتلون في ارض بعيدة دفاعا عن «قضية حرب» اثبتت الايام كذب مبرراتها.
ورابعها هو الاستنزاف المالي للخزينة الاميركية بعد الاستنزاف البشري للشعب الأميركي، ذلك لأن أميركا استأثرت وحدها - مع بريطانيا - بقرار شن الحرب، بعيدا عن ساحة الأمم المتحدة، فهي الآن تتحمل مع حليفتها اساسا، وبدعم قليل ضئيل من دول اخرى معدودة، النتائج كاملة والخسائر كاملة ايضا، وتنفق وحدها على نتائج الحرب، كما انفقت وحدها من قبل على الحرب، ما حمل وسيحمل الخزينة ودافع الضرائب الأميركي، اعباء اقتصادية ومالية هائلة، عرفنا بعضها من مئات المليارات المرصودة والمطلوبة.
ولا نظن ان اضافة اعباء اقتصادية جديدة على كاهل دافع الضرائب الأميركي، في عام الانتخابات الرئاسية، ستكون في صالح الرئيس بوش وصقور ادارته المتطرفين المتعطشين دوما إلى الغزو والحرب.
لكل هذه الاسباب مجتمعة ولغيرها، بدأت السياسة الأميركية أخيرا، البحث عن طريقة للتراجع عن انانية قرارها وانفرادها بقرار الحرب، بعدما ثبت انها لم تحسب جيدا حساب نتائج الحرب، والمرحلة اللاحقة لها، وردود الفعل سواء من الشعب العراقي، أو من الشعوب العربية، أو من المجتمع الدولي، الذي تبدي بعض دوله شماتة لا تخفى على أحد في الورطة الأميركية بالعراق، ناهيك عن رد فعل الشعب الأميركي الآن.
حسنا... اعرف معرفة حقيقية، ان بعض الدول العربية تطوعت وبادرت بمحاولة مساعدة الولايات المتحدة في ورطتها فوافقت سرا على ارسال قواتها الى العراق، وأعرف ان دولا عربية اخرى خضعت - أو في سبيلها إلى الخضوع - للضغط الأميركي الثقيل لكنها تريد غطاء عربيا رسميا حتى توافق عمليا على مثل هذه الخطوة.
وأعرف كذلك ان اجتماعات رسمية عربية، بعضها في اطار الجامعة العربية، وبعضها الآخر خارجها، تنظم على عجل لبحث هذا الموضوع، استجابة للطلب الأميركي، تمهيدا لاتخاذ «قرار عربي» بالمشاركة في ارسال قوات عربية إلى العراق، بحجة المشاركة في صوغ العراق الجديد، وعدم السلبية أو تجاهل ما يجري هناك والانعزال عنه، وهي حجة ستجد آلاف المبررين وطوابير المفسرين.
لكني اعرف معرفة مؤكدة أيضا، ان الاعتراف او المشاركة في نتائج الاحتلال، هي مشاركة فعلية في جرم الاحتلال واعتراف صريح «فاضح» بخطيئة الغزو وسلبياته، حتى لو كانت ايجابيته الوحيدة تخليص الشعب العراقي من نظام مارس عليه القهر والطغيان طويلا.
وبالتالي سترتكب الدول العربية خطيئة تاريخية لو خضعت للضغط الأميركي وأرسلت قواتها الى العراق في ظل الاحتلال الأميركي واسباغ شرعية عربية على وجوده هناك.
وخروجا من هذا المأزق العربي «الرسمي» يمكن للدول العربية مساعدة الشعب العراقي عن طريقين واضحين محددين...
أولا: ان تشارك الدول العربية في قوات حفظ سلام دولية، ترسل بقرار من الأمم المتحدة، وبعد ان تسقط صفة الاحتلال الانجلوأميركي ويسلم العراق وديعة إلى الأمم المتحدة بصورة كاملة شاملة تديره مؤقتا بمعرفتها ولفترة قصيرة، حتى يتولى العراقيون شئونهم في استقلالية وحرية ومن دون ضغوط.
ثانيا: ان تبادر الدول العربية، فرادى وجماعات، الى نسج خيوط الاتصال والتواصل مع فئات المجتمع العراقي وتجمعاته الشعبية المتعددة بعيدا عن سلطة الاحتلال، لمساعدة هذا الشعب العربي الأبي، الذي ما إنْ تخلص من نظام داخلي قهري، حتى وقع في براثن احتلال أجنبي قهري آخر.
وما غير ذلك، سقوط تاريخي في خطايا تاريخية مهينة، لن تمحوها آلاف الحجج وملايين التبريرات!
خير الكلام يقول سليمان العيسى:
هذا العراق ليصبغوه دما
غير العروبة فيه لن يجدوا
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 340 - الإثنين 11 أغسطس 2003م الموافق 12 جمادى الآخرة 1424هـ