إنّ على كاتب هذه السطور أن يفكر مليّا من الآن فصاعدا ماذا يكتب، وكيف يكتب، بعد أن سحب الكاتب عبدالله العباسي منه «رخصة الرصانة» في الكتابة!
لم يكن من المتوقع أن يحوز مقالي «الحب بين اليهود والرفاق» المنشور في «الوسط» بتاريخ 1أغسطس/ آب الجاري 2003 إعجاب الكل، فهذا مقام لا ندعيه، كما أننا نعلم أن للشيوعية أتباعا ومحبين لا يعجبهم النيل من «مقدساتهم»!
ولكن أن تأتي ردة الفعل مصحوبة بهذا الكم من تصغير الآخر، وكَيل الاتهامات، واتباع أسلوب إعطاء النصائح والإرشادات العلوية فهذا ما لم أكن أتوقعه.
اتهمني العباسي بأني لا أفقه في الموضوع الذي كتبت فيه لمجرد أنه لم يقرأ لي من قبل في نقد الشيوعية. وإني أطالب الكاتب بأن يدلني على التخصص المناسب في الجامعة أو الكلية المناسبة لكي ألتحق بها وأحصل على درجة علمية تؤهلني لأن أسطّر سطورا أبين فيها العلاقة المريبة بين «الرفاق» و«اليهود»، وهكذا استطيع ان ألبي نصيحته الغالية بـ «ألا أخوض في بحر لا أعرف العوم فيه».
هذا، مع ملاحظة أنه إذا جاء احد العلمانيين المتغربين، أو أحد الماركسيين الصرحاء أو المستترين، ليفتي في أمر من أمور الدين الإسلامي الحنيف، وانبرى الإسلاميون للرد، لعلعت الألسنة وخطت الأقلام في اتهام الإسلاميين بمحاولة احتكار الإسلام وفهمه، ولكن أن نكتب بعض الحقائق عن الشيوعيين العرب فهذا مجال له مختصوه وخبراؤه، فلا نخوض أنا وأمثالي فيه.
ثم يأتي الكاتب ليقدم نصيحة عاجية (أي صادرة من برج عاجي علوي من التعالي الفكري المغلوط) فيطالبني بالكف عن مثل هذه الموضوعات «غير الرصينة» التي لا تعجبه، والعودة إلى الموضوعات «الرصينة» التي تنال استحسانه. بأسلوب آخر... يحدد لي ما أكتب وما أجتنب. ومع ذلك فالإسلاميون هم المتهمون بممارسة «الإرهاب الفكري» وغيرهم حريص على حقوق الإنسان، وحرية الكلمة.
حاول الكاتب أن يدافع عن الفلسفة الشيوعية، واستشهد بنقطة التقاء بينها وبين الإسلام تتمثل في عمل الإسلام على تحقيق العدالة الاجتماعية، فهل يكفي هذا للاستدلال على شرعية النهج الماركسي أو إضفاء صفة العدالة عليه، ثم أليس من حق عشاق النهج الإجرامي الرأسمالي كذلك أن يتبعوا الأسلوب نفسه في إضفاء العدالة على مذهبهم بالإدعاء بأن الرأسمالية والإسلام يصدران من معين واحد، لأن الإسلام يقرّ الملكية الفردية. ان الموقف المخزي الذي وقفته الشيوعية من الإسلام لا يحتاج إلى دليل. أليست مقولة ماركس المشهورة هي «الدين أفيون الشعوب» أي: كل دين! أليس هو القائل: «إن الله لم يخلق الجنس البشري بل الإنسان هو الذي خلق الله»! ألم يقل لينين: «الدين خرافة وجهل»! ألم تكتب صحيفة «برافدا»: نحن نؤمن بثلاثة: ماركس ولينين وستالين، ونكفر بثلاثة: الله والدين والملكية الفردية!
أما عن موقف الأحزاب الشيوعية العربية من القضية الفلسطينية، وصلات الرفاق العرب باليهود، فهي من المسلمات التي لن يفلح الكاتب أو غيره في نفيها، وستظل هذه الصلة العقدة الكبرى بالنسبة إلى الرفاق العرب إلى يوم القيامة (القيامة التي نؤمن بها نحن لا الرفاق). والمعلومات التي ذكرتها في مقالي السابق ليست من جيبي، بل من مصادر كتبت بأيد إسلامية، مثل محمد الغزالي وعبدالله عزام وعبدالرحمن الميداني وعبدالجليل شلبي وسامي الدلاّل ومحمد جلال كشك ومحمد فاروق الخالدي وغيرهم، ومصادر أخرى من الداخل، أي بأيدي شيوعيين سابقين نبذوا الشيوعية وكتبوا عن بعض ما شاركوا هم فيه من فضائح، من مثل مصطفى محمود، صاحب كتاب «الماركسية والإسلام»، وقدري قلعجي، صاحب كتاب «تجربة عربي في الحزب الشيوعي»، ومصطفى الزين، الشيوعي السوري الذي فاء إلى رشده وألّف كتاب «خمس سنوات مع الشيوعية».
يذكر قدري قلعجي في كتابه السالف الذكر، نقلا عن العضو السابق في القيادة المركزية للحزب الشيوعي السوري رفيق رضا، بعض خيانات هذا الحزب، وتأييده للدولة اليهودية فيقول: «كانت قيادة الحزب الشيوعي بمثل حماس بن غوريون لبعث الدولة اليهودية في فلسطين. فـ «إسرائيل» في نظرها واحة من واحات الديمقراطية في الشرق الأدنى. والشعب الإسرائيلي المشرد لابد وأن يلتقي في أرض الميعاد، وأن واجب التضامن الأممي في عرف القيادة المذكورة هو من صلب المبادئ الماركسية، ولذلك فوجود «إسرائيل» له في عرفها مبرراته الإنسانية التي تتخطى المبررات والوقائع القومية. ومنذ اليوم الأول لكارثة فلسطين، أو منذ اليوم الأول لإعلان التقسيم ووقوف الدول الكبرى إلى جانب الصهيونية بما فيها الاتحاد السوفياتي، منذ ذلك اليوم المشؤوم في تاريخ قوميتنا انحازت قيادة الحزب الشيوعي لجانب الرأي الاستعماري الصهيوني، ونادت بعدالة التقسيم ، ودعت إليه كما لو كانت قيادة تجري في عروقها دماء إسرائيل»!
وإذا كانت هذه المصادر ليست موثوقة بالنسبة إلى الكاتب العباسي فهذا من حقه، وإذا كتب محاولا التقليل من شأن الحقائق التي ذكرتها فهذا أيضا من حقه، ولكن ليس من حقه أن يوزع «صكوك الرصانة في الكتابة» على غيره.
ويحاول العباسي تبرير بعض التصرفات والأقوال الخائنة التي صدرت عن الأحزاب الشيوعية العربية، كالحزب الشيوعي العراقي وحزب «حدتو» المصري ، فيتساءل: «ألا نتمنى أن ينتهي العنف الإسرائيلي وتعيش الأطراف المختلفة في سلام في زمن الضعف العربي والطغيان الأميركي». يا أستاذ، ما علاقة تمني السلام بإضفاء الشرعية على الكيان الغاصب، والادعاء بأن لليهود الحق في إقامة دولتهم على أرض فلسطين؟
أما بالنسبة إلى الاتحاد السوفياتي، فقد حاول العباسي الإقلال من الدعم الشيوعي الرسمي (أي الصادر من الاتحاد السوفياتي) لـ «إسرائيل»، بذكر كلمات محدودة من ضمنها مسألة الاعتراف السوفياتي بـ «إسرائيل». ان الشيوعية العالمية ودولتها التي قامت في روسيا كانت خاضعة لليهودية العالمية فكرا وسياسة وإدارة وتوجيها. لقد أصر الاتحاد السوفياتي في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة قبيل إعلان قيام الكيان الصهيوني على أن تشارك الوكالة اليهودية في عرض وجهة النظر الخاصة بفلسطين، وصرح مندوبها هناك (أندريه غروميكو)، الذي صار وزيرا للخارجية فيما بعد قائلا: «لا يستطيع أحد أن يرغم الجمعية العامة على اتخاذ قرار يؤيد مطلب العرب»! وحين طرح على الجمعية العامة اقتراح بدعوة اللجنة العربية العليا، عارضه السوفيات تأييدا لوجهة النظر اليهودية، وإبعادا للعرب عن مراكز التأثير في هيئة الأمم المتحدة، وكان (غروميكو) يصر على أن مهمة مجلس الأمن أن يأمر بانسحاب ما أسماه بـ «العصابات العربية» التي غزت فلسطين! وهكذا عندما تم إعلان الكيان الغاصب، اعترفت به أميركا بعد 16 دقيقة من الإعلان، وتلتها روسيا فاعترفت بـ «إسرائيل» في اليوم الثاني لقيامها. ومن الغريب أن يدعي العباسي «لو أن الاتحاد السوفياتي كان في مثل قوته أيام خروشوف وكوسيجين هل كان يترك المجال لأن يفعل شارون ما يريد»! يا سلام. وهل أغنت عنّا القوة السوفياتية شيئا أيام دير ياسين و1956 وعدوان 1967؟
أما العجب العجاب فهو الأسلوب الذي اتبعه العباسي بالغمز واللمز في علاقة أميركا بما هو مكتوب، بطريقة تشعر بأن من يكتب عن الشيوعية كلمة سوء فهو عميل لأميركا، وهي النفسية ذاتها المهيمنة على طائفة من الناس منذ الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، مع أن كاتب هذه السطور كتب في «الوسط» من قبل عن الإرهاب الأميركي بتاريخ 16/7/2003، والانهيار الأميركي بتاريخ 19/7/2003. فهل يا ترى الكاتب القدير (العباسي) لا يدرك أن الدعم السوفياتي المتأخر للعرب إنما هو جزء من تبدل الأهواء والأحوال والسياسات ضمن الهيمنة القذرة التي كان يمارسها القطبان الظالمان الحاكمان للعالم حينذاك؟ ففي «الفيلم الفيتنامي» كان البطل هو الاتحاد السوفياتي، والمجرم أميركا، وفي «الفيلم الأفغاني» كانت الأدوار مختلفة. وعموما، فليطمئن العباسي، فنحن نؤمن إيمانا يقينيّا بأن دولة الصهاينة، قامت بتخطيط من بريطانيا، ودعم كامل من أميركا والاتحاد السوفياتي، ومؤازرة تامة من أوروبا شرقيها وغربيها، ومن وراء الكل اليهود، وعملاء اليهود في الوطن العربي من (الرفاق) و(الباشوات)! ودعاؤنا المفضل الذي نبتهل إلى الله به هو: «اللهم، كما أريتنا في الاتحاد السوفياتي يوما اسودا. أرنا في أميركا يوما أشد سوادا».
ختاما: أشكر عبدالله العباسي على خوفه عليّ من أن أقدم على الانتحار في بحر لا أحسن العوم فيه! وأبشره بأني أحاول قدر جهدي أن أكون مسلما ملتزما، والمسلم الملتزم لا يقدم على الانتحار لأنه... حرام
العدد 339 - الأحد 10 أغسطس 2003م الموافق 11 جمادى الآخرة 1424هـ