تبدأ اليوم في الكويت قمة دول مجلس التعاون دورتها الثلاثين. وتباشر القمة أعمالها في فضاءات إقليمية تشهد متغيرات في علاقات دول الجوار وسط ارتفاع موجة المخاوف الأمنية التي أخذت تخترق الحدود متجاوزة الخطوط الحمر المتوافق تقليديا على ضبطها ضمن أطرها الجغرافية.
امتداد موجات العنف يشكل نقطة توتر تضاف إلى مجموعة ملفات موقوفة تنتظر إعادة قراءة في أوراقها حتى يمكن السيطرة على تداعياتها في حال قررت واشنطن تنفيذ سيناريو الانسحاب العسكري وتجميع القوات وإعادة نشرها وموضعتها في «الشرق الأوسط الكبير». السيناريو الأميركي الجديد لا يخرج في عناوينه العريضة عن المشروع الاستراتيجي الذي بدأت إدارة جورج بوش بتنفيذه متذرعة بهجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001. والعناوين المشتركة تتمثل في انتشار الفوضى وخلط التحالفات وترسيم خطوط تماسّ تستدرج دول المنطقة إلى طور متقدم من القلق.
سيناريو باراك أوباما الانسحابي لن يقل في تأثيراته الأمنية عن سيناريو بوش الهجومي. بوش ساهم في تقويض الاستقرار ونشر العنف وفتح منافذ للمجموعات المسلحة (المجهولة العنوان والهوية) لممارسة أنشطتها ضد المدنيين في أكثر من مكان. والآن سيبدأ أوباما قبل نهاية عهده تنفيذ الوجه الآخر للسيناريو الأميركي اعتمادا على خطة الانسحاب وخطوات الانكفاء بذريعة الفشل. وسيناريو التراجع لا يقل خطورة عن سيناريو الهجوم لأنه في نهاية المطاف سينتج مجموعة استحقاقات يفترض أن تشكل تحديات لدول الخليج التي بدأت أعمال قمتها اليوم في الكويت.
هناك الكثير من التداعيات يمكن أن تنجم عن الفراغات الأمنية التي يرجح أن تتوالد تباعا بعد كل خطوة انسحابية نظرا لوجود قوى تنتظر تلك اللحظة لتحسين مواقعها سواء في منظومة العلاقات الإقليمية أو في قدرتها على التموضع والضغط على الحدود المفتوحة من أفغانستان إلى السودان.
الانكفاء الأميركي لن يكون مطلقا أو نهائيا ولكنه سيشكل في حدوده الدنيا محطة سياسية مهمة لا يُستبعد أن تثير عواصف ساخنة في الكثير من الساحات الجغرافية.
أفغانستان مثلا معرضة للتشرذم والانشطار إلى دويلات قبلية (مراكز قوى) تتنافس على تعبئة الفراغ. والنظام الأفغاني المصنوع في أميركا مرشح للانهيار في حال أخذت طالبان (قبيلة البشتون) قرار التمدد والخروج من الكهوف والهبوط من المرتفعات إلى العاصمة ومدن الأقاليم.
العراق أيضا لن يعود كما كان في عهده السابق. فالدولة تقوضت والشعب انشطر طائفيا ومذهبيا والمناطق توزعت مراكز نفوذ تدير شئونها قوى محلية تهيمن عليها سلطات القبائل والعشائر.
اليمن ليس بعيدا عن المشهد التقويضي في حال تواصل العنف واستمر ينتشر في محافظاته وأطرافه من دون أن تتمكن السلطة المركزية في ضبطه تحت المشترك الوطني. وخطورة ما يحصل في اليمن يتمثل في التكوين القبلي للدولة وامتداد العشائر وتجاورها الإقليمي واحتمال تجاوزها الحدود السياسية للدول. والعنف القبلي الذي يهدد الدولة بالانشطار إلى مراكز قوى (دويلات عشائر) ليس مستبعدا أن ينتشر نظرا لوجود مشهد متقارب منه يتمثل في تفكك الصومال وتبعثره على هيئات لم تستقر حتى الآن على هوية واضحة ورؤية سياسية قادرة على أخذ زمام المبادرة وقيادة البلد إلى موقع آمن.
السودان بدوره الذي ينتظر الاستفتاء على الوحدة يتعرض إلى ضغوط داخلية أخذت تدفع باتجاه الانقسام وربما انفصال الجنوب عن الشمال. والانفصال في حال تحقَّقَ سيكون له تأثيراته الموضعية على مختلف الأقاليم السودانية التي تمر مجتمعة في حالات من الفوضى والتوتر.
كل نقاط التوتر هذه ليست بعيدة عن المجال السياسي الحيوي لجغرافيا دول الخليج العربية. فهناك خطوط تماس قبلية تربط بعض مناطق الفوضى بالحدود ما يشكل للمجموعات المسلحة ملاذات آمنة أو معابر للتنقل والانتشار. وهذه القنوات تحتاج إلى قراءة تتطلب رؤية تتجاوز الحلول العسكرية والأساليب الأمنية في التعامل مع قضايا اجتماعية وتنموية ومعيشية. فالقبيلة يمكن كسبها أو تحييدها من خلال أدوات اتصال تتعدى منطق القوة الذي يكلف الدولة الكثير من المال والدمار والضحايا ولا يؤدي إلى نتيجة سياسية مقبولة.
صراع الدولة مع القبيلة لا يمكن ضبطه في سياقات قانونية تتحكم في ارتداداتها آليات واضحة ومنظمة. فهذا النوع من التدافع لا قيمة له سوى اتساع رقعة الفوضى والانزلاق نحو فراغات وأخطاء يمكن تجنب السقوط بشباكها في حال اعتمدت وسائل مرنة في التعامل مع مشكلاتها.
مسألة القبيلة في السودان والصومال واليمن وأفغانستان تحتاج فعلا إلى رؤية سياسية تختلف عن تلك التي لجأت إليها الولايات المتحدة بعد إسقاط نظام «طالبان» في كابول. فاستخدام القوة ضد كتلة بشرية متماسكة ومحصّنة في جغرافيا وعرة وموحدة مذهبيا أو أقواميا أو لونيا من الصعب كسرها بسهولة لأنها تؤدي إلى تكوين نواة صلبة (محاربة) تستطيع أن تنهك هيئة منظمة وطارئة ومندفعة على منطقة وجودها وانتشارها. فهذه القبائل الممتدة التي تشكل غالبية سكانية في الكثير من الدول يمكن تحويلها إلى قوة مضافة للدولة في حال قرر المركز توسيع القاعدة الاجتماعية للسلطة السياسية.
مشكلة دول الخليج العربية ليست مع القبيلة لأن الطبيعة العمرانية (الاجتماعية) للسكان تتشكل تقليديا في المنطقة من تكويناتها البشرية. المشكلة تتمثل في الفترة الراهنة مع تلك الفراغات الأمنية التي تشجع العنف على الامتداد والتواصل. وهذه البؤر يمكن أن تتوسع جغرافيا مع بدء الولايات المتحدة مرحلة الانسحاب والتموضع وإعادة الانتشار ما يطرح سلسلة تحديات على جدول أعمال وأنشطة مجلس التعاون.
هناك استحقاقات إقليمية تتجاوز حدود القبيلة تنتظر دول الخليج في الفترة الفاصلة بين بدء التراجع الأميركي والخطوط النهائية التي سيتوقف عندها. والملفات التي يرجح أن تنفتح إمّا تباعا أو دفعة واحدة تتطلب مراجعة نقدية لسياسة التوكيل الأمني المتبعة وإعادة برمجة للأولويات في منطقة استراتيجية وغنية وحيوية وواعدة.
سيناريو الهجوم الذي اعتمده بوش أدى إلى زعزعة الاستقرار ونشر الفوضى وتهديد أمن الأنظمة وتوليد حركات عنف وحالات تطرف ورسم خطوط تماسّ رفعت من درجة التوتر بين دول الجوار. وسيناريو الانكفاء الذي يرجح أن يتبعه أوباما خلال عهده سيولّد فراغات أمنية ستؤدي بطبيعة الحال إلى تشجيع بؤر العنف على التوسع والتمدد واختراق الحدود من دون احترام لقانون السيادة.
كل هذه المستجدات تطرح احتمالات غير منظورة في الأفق القريب ولكنها قد تتحول إلى خرائط سياسية يمكن مشاهدتها في الأفق البعيد في حال تواصلت المتغيرات في المنظومة الإقليمية من دون أن تتقدم دول الخليج بمشروع رؤية استراتيجية يتأسّس على خطة عمل مشتركة تطمح إلى تأكيد موقع مجلس التعاون ودوره الطبيعي الفاعل في إطار تشكيل مظلة للوقاية والحماية من المخاطر المنتظرة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2656 - الأحد 13 ديسمبر 2009م الموافق 26 ذي الحجة 1430هـ