نمو الهاجس الأمني في دول الخليج العربية وتقدمه على حساب الطموحات الاقتصادية لا يمكن عزله عن اختلاف طبيعة قواعد الاشتباك في المنطقة. فهذه الدائرة الإستراتيجية تعرضت خلال العقود الثلاثة الأخيرة إلى متغيرات إقليمية ساهمت في ترتيب أولويات وضعت الأمن على رأس جدول أعمال دولها. منتدى «حوار المنامة» في نسخته السادسة بدأ أمس تحت وقع طبول الحرب في محافظة صعده اليمنية. وقمة دول الخليج ستبدأ أعمالها غدا في الكويت في أفق إطاري يحتل فيه موضوع الأمن الموقع الأول في اهتمامات وهموم دول مجلس التعاون الخليجي.
مسألة الأمن التي ارتفعت هواجسها إلى المقام الأول لا يمكن حصرها في جبال صعدة وتمرد الحوثيين لأن الموضوع ليس جديدا على منطقة شهدت ثلاث حروب «كونية» على أرضها منذ العام 1980. وهذه الحروب التي زعزعت الاستقرار الدولي كان من الصعب تصور مرورها من دون تأثيرات بنيوية على توازنات المنطقة وعلاقات دول الجوار وتداخل المصالح وتعانق المشكلات.
حروب الخليج الثلاث بدأت ثنائية وتحولت إقليمية وتطورت دوليا وهي في مجموعها العام شكلت نقطة توازن تشابكت على أرضها صراع إرادات معطوفة على طموحات شركات طاقة ومؤسسات نقد وأسواق مال وتجارة. وزاد الطين بلة أن الحروب أحدثت مجموعة متغيرات في خريطة المنطقة وهيئتها السياسية ما أعطى فرصة لنمو تلك «الموروثات» وخروجها من تحت الأرض إلى سطحها.
دول الخليج العربية تعيش الآن فترات زمنية في وقت واحد. فهناك الحداثة والتقدم والتنمية والنمو على الجبهة الاقتصادية، وهناك التقاليد والعادات والسلوك الاجتماعي على الجبهة الدينية، وهناك الموروثات (المذاهب والقبائل) التي أخذت تتوالد في ضوء المتغيرات الإقليمية على الجبهة السياسية.
تعانق الأزمات في فترة زمنية واحدة يشكل إضافة نوعية على تحولات تنتظر منطقة الخليج في السنوات المقبلة وتحديدا بعد تموضع الولايات المتحدة وترتيب قواتها في العراق وأفغانستان. فإعادة الانتشار الأميركية قبل نهاية عهد باراك أوباما تشكل خطوة سياسية مبهمة في سياق الرؤية الدولية لطبيعية الأمن ودور القوى الإقليمية في صوغه أو تعديله أو المشاركة به.
دول الخليج العربية لا يمكن إلا أن تكون معنية بكل تلك التطورات المرئية منها والخفية باعتبار أنها تشكل مجتمعة قوة مالية واعدة في نموها وموقعها الدولي في التجارة والتوظيف والاستثمار. والقوة المالية ليست كافية لتأمين حماية وضبط التوازن الإقليمي تحت سقف الاحترام المتبادل إذا لم تترافق مع تنمية قوة بشرية لها مصلحة في الدفاع عن نماذج تلبّي الطموحات والرغبات خارج إطار «الموروثات» التي أخذت تتفجر في العراق واليمن.
نمو الهاجس الأمني الخليجي والتخوف من أبعاد وخلفيات التوترات التي تحصل في العراق واليمن والتوجس من تطور طموحات إيران النووية والإقليمية يتطلب فعلا إعادة قراءة لتراتب الأولويات وموقع دول مجلس التعاون ودورها في المشاركة في صنع مظلة واقية تمنع التساقط والانهيارات. الدول الخليجية لا تزال حتى الآن تمر في طور المراقب ولم تتقدم لتلعب دور الشريك الإقليمي القادر على انتزاع موقع في إطار متغيرات متسارعة. وعدم المشاركة في تقرير مصير منطقة إستراتيجية وحيوية وغنية يترك بطبيعة الحال فراغات أمنية ويفتح الباب لنمو جماعات تستطيع التحرك في مجالات جغرافية وسياسية مفتوحة على احتمالات ومحكومة بآليات «الموروثات».
الرقيب أوالشريك
انتقال دول الخليج العربية من موقع الرقيب إلى مرتبة الشريك يمثل خطوة مركزية في سياق الالتحاق بالأولويات التي طرأت على المنطقة بعد سقوط بغداد في العام 2003. والانتقال لا يمكن أن يحصل في ظل سيادة رؤية سياسية تعتمد مبدأ توكيل الأمن للشركات المتعددة الجنسية. فهذه الشركات تتكيف مع مصالح الدول الكبرى وترسم مشروعاتها الأمنية وفق تصورات خاصة ليس بالضرورة أن تكون منسجمة مع هواجس ومخاوف وتوجسات دول الإقليم.
أخذ المبادرة الأمنية يتطلب مجموعة شروط سياسية تتجاوز في إطاراتها الكبرى طموحات التنمية الاقتصادية، لأن الأمن يفترض وجود إستراتيجية جامعة توحد الدول وتشجعها على التقدم الميداني وطرح تصورات خاصة بها قد تتعارض في جوانب منها مع مصالح الدول الكبرى وشركاتها المتعددة الجنسية. الولايات المتحدة لها إستراتيجية خاصة بها استخدمتها في عهد جورج بوش لتقويض الأمن والاستقرار وإسقاط أنظمة وتغيير خرائط ما أدى إلى تعديل التوازنات وتشكيل مراكز قوى أخذت تضغط على المعادلة الإقليمية. وهذه الإستراتيجية الأميركية جاءت في فترة زمنية لتلبية طموحات شركات وتغذية أنشطتها المالية والتسويقية، من دون اعتبار لتلك الأضرار التي يمكن أن تصيب الدول المجاورة للعراق وأفغانستان.
الحسابات الدولية لا تتوافق دائما مع الهواجس الإقليمية للدول الصديقة أو الحليفة أو المعادية لأنها تقرأ السياسة من موقع مختلف وتبحث دائما عن مصالحها الخاصة (الشركات المتعددة الجنسية) من دون انتباه لخطورة تلك الانعكاسات السلبية على أمن واستقرار الدول التي تتحرك في مجالها الجغرافي.
هذا النوع من الحسابات المتخالفة بين مصالح الدول الكبرى ومخاوف دول الإقليم يتطلب فعلا من مجلس التعاون إعادة قراءة للمتغيرات الإستراتيجية التي طرأت على المنطقة منذ العام 2001 وما أنتجته من توازنات بدأت ترسم خطوط تماسّ مستفيدة من تلك «الموروثات» المشروطة بالجغرافيا وانتشار القبائل وتوزع الطوائف والمذاهب. وفي هذا المعنى الميداني تتحمل الولايات المتحدة المسئولية الأولى لأنها الطرف الذي تعمد وخطط ونفذ حتى تصل المنطقة إلى هذا المستوى من الفوضى والتوتر. فالتوتر وعدم الاستقرار وارتفاع هاجس الخوف كلها عناصر «اقتصادية» تعطي ذريعة للتدخل وتفتح الأسواق أمام الشركات المتعددة الجنسية لتنمية قوتها المالية وتصدير ذاك الفائض من الإنتاج.
ما حصل في أفغانستان والعراق وما يحصل في اليمن كلها أشارات سياسية تدل على مخاطر تعارض مصالح الدول الكبرى مع مخاوف دول الإقليم الأمنية. فالإستراتيجية الدولية لا تقرأ مصالحها في ضوء هواجس دول الخليج الأمنية، وإنما بناء على تصورات لا تكترث للاستقرار بقدرما تهتم لشروطها القابلة دائما للتكيف والتعديل بحسب ما تقتضيه المتغيرات الميدانية والتوازنات الإقليمية.
نمو الهاجس الأمني وتقدمه على حساب الطموحات الاقتصادية مسألة طبيعية في منطقة إقليمية تشهد متغيرات متسارعة في وقت تكتفي دول الخليج العربية بأخذ موقع المراقب وتوكيل الأمن والتخلي عن حق لعب دور الشريك الإستراتيجي في رسم خريطة المنطقة. القلق ضروري ولكنه لا يشكل تلك القوة القادرة على الدفاع الذاتي ولا يعطي فرصة للتفكير ووضع تصورات مستقلة عن مخططات الدول الكبرى تفتح الباب للشراكة وتضمن المصالح المختلفة في إطار مظلة إقليمية تضبط الاستقرار لكل الدول من دون تمييز أو استثناء
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2655 - السبت 12 ديسمبر 2009م الموافق 25 ذي الحجة 1430هـ