الخطوة الناقصة التي اتخذها الاتحاد الأوروبي بشأن القدس والأراضي المحتلة في العام 1967 بناء على توصية تقدمت بها السويد تشكل بحد ذاتها نقطة إيجابية يمكن التأسيس عليها لاحقا. فالخطوة التي تعرضت لضغوط إسرائيلية قبل إقراراها تمثل انعطافة جزئية في تعامل الدول الأوروبية مع المسألة الفلسطينية لأنها من جانب وجهت رسالة خجولة لتل أبيب تؤكد ضرورة التعاطي القانوني مع قرارات دولية صدرت في هذا الشأن ولأنها من جانب آخر أشارت إلى وجود كتلة أوروبية بدأت تتجه نحو تبني سياسة متخالفة مع تصوراتها السابقة.
الخطوة ناقصة في مجموعها العام ولكنها إيجابية في رمزيتها لكونها أشارت إلى نمو قوة أوروبية غاضبة من أسلوب التهرب الإسرائيلي من الالتزامات الدولية والتحايل الدائم على القوانين والنصوص والمواد المتوافق عليها في ميثاق الأمم المتحدة. ومجرد حصول تفاهمات بين الدول الأوروبية على الحد الأدنى في موضوع يعتبر تقليديا من المحرمات والمقدسات يشكل في إطاره الراهن مساحة سياسية يمكن أن تستفيد منها السلطة الفلسطينية في معركتها الدبلوماسية المقبلة التي يرجح أن تكون قاسية وعاصفة.
حكومة أقصى التطرف الصهيوني تعاملت مع الخطوة الأوروبية بدبلوماسية بدأت متوترة ثم انتهت إلى تقبل الأمر الواقع بصعوبة. وتعاطي تل أبيب السلبي مع المسألة المستجدة في الموقف الأوروبي يشكل بحد ذاته إشارة ضمنية إلى العناد الإسرائيلي والإصرار على التهرب من المسئوليات والمراهنة على لعبة الوقت والمراوغة في التعامل مع قضايا مصيرية وحساسة لم تعد تحتمل المزيد من التأجيل والمناكفة.
هذه الدبلوماسية الإسرائيلية وصلت كما يبدو إلى حدها الأقصى في التكبر على القوى الدولية صاحبة المصلحة في تأمين الإطار السياسي المطلوب لضمان استقرار منطقة «الشرق الأوسط». فالحكومة المتعجرفة لجأت إلى الكنيست لشراء الوقت وكسب ذريعة قانونية تبرر الأسلوب الفوقي في التعامل مع مصالح الدول الأوروبية وحاجتها إلى ضبط التوتر الأمني في منطقة إستراتيجية وغنية بالثروات وواعدة في نموها الاقتصادي وتنميتها البشرية.
السياسة الإسرائيلية التوسعية التي تخالف القرارات الدولية الصادرة بشأن احتلال الجولان والقدس والضفة الغربية وغزة منذ عدوان يونيو/ حزيران 1967 بدأت تستنزف طاقاتها ولم تعد قادرة على تبرير دبلوماسيتها والدفاع عنها حتى أمام الأصدقاء وتلك الدول الأوروبية التي شكلت تقليديا مظلة لحماية تل أبيب من المحيط العربي ودول الجوار.
حين تصبح السياسة الإسرائيلية عاجزة عن استكمال نمط التضليل على الاتحاد الأوروبي فهذا معناه أن الدبلوماسية الصهيونية أصبحت في موقع الطرف الفاشل وغير القادر على تغطية السلوك من دون مساءلة كما كان يحصل في السابق. والرد الإسرائيلي على الخطوة الأوروبية الناقصة جاء ليؤكد عجز حكومة التطرف الصهيوني على تفسير نمطها الدبلوماسي وتأويل عنادها ومعنى إصرارها على احتلال أراضٍ بالضد من الرغبة الدولية وقرارات مجلس الأمن.
لجوء حكومة بنيامين نتنياهو إلى الكنيست الإسرائيلي ومحاولتها انتزاع براءة قانونية تؤكد على ضرورة تنظيم استفتاء شعبي قبل أي انسحاب محتمل من القدس والجولان يؤشر إلى ضعف سياسي في التعامل مع موضوع متقادم ولا يمكن إهماله إلى أجل مفتوح. والضعف الإسرائيلي في هذه المسألة يرسل إشارة باتجاه آخر يمكن أن تستفيد منه سورية والسلطة الفلسطينية ولبنان للبناء عليه وتطويره باتجاه مخالف في حال تعاملت القوى الثلاث في سياق تفاوضي مشترك.
المناورة الإسرائيلية باللجوء إلى «الشعب» لأخذ موافقته تعتبر قانونيا مخالفة للشرائع الدولية التي تنص على رفض احتلال أراضي الآخر بالقوة. والهروب إلى الشارع (الاستفتاء) لا يؤخر ولا يقدم في الموضوع قانونيا لأنه يتجاوز الإطار الوطني للدولة ولا يتناول مشكلة داخلية وإنما يتجه نحو تعديل مسألة إقليمية. وبغض النظر عن نتيجة التصويت في الكنيست أو الشارع فإن القرارات الدولية غير معنية بها لأنها أساسا تعتبر مخالفة قانونية ولا يمكن التعويل عليها رسميا لتعديل اتفاقات وتدوير قضايا.
الاستفتاء الإسرائيلي على مسألة إقليمية خطوة قانونية ساقطة في المعيار الدولي وهي لا تضيف أي قيمة معنوية اعتبارية في ميزان العدالة حتى لو قرر الجمهور رفض الانسحاب من القدس والجولان والضفة بنسبة مئة في المئة. والسبب أن المخالفة قائمة أصلا في استمرار «إسرائيل» في الاحتلال ورفضها الدائم التجاوب مع قرارات دولية واضحة في موادها وبنودها.
المسألة إذا في أصلها القانوني خاطئة وهي تؤشر إلى ضعف إسرائيلي وعدم قدرة تل أبيب على مواصلة شراء الوقت اعتمادا على قوى دولية شكلت أوروبا تقليديا واحدا من أعمدتها التاريخية والجغرافية.
خسارة «إسرائيل» للدعم الأوروبي المطلق يمثل خطوة مهمة في معادلة الصراع الإقليمي ويشكل نقطة إيجابية لمصلحة الجانب الفلسطيني في سياق كفاحه الدبلوماسي الطويل لانتزاع حقوقه المضمونة دوليا. فالدعم الأوروبي لتل أبيب بعد اتخاذ دول الاتحاد تلك الخطوة الناقصة لم يعد بالإجماع ومن دون مساءلة كما كان في السابق. وحين تبدأ الدول الأوروبية ترسل إشارات خجولة تظهر الانزعاج من السياسة الإسرائيلية وعنادها الدبلوماسي وتهورها الأمني فمعنى ذلك أن حكومة تل أبيب أخذت تخسر ذاك الغطاء المجاني لاحتلالها المفضوح سواء في اقتطاع الأراضي وبناء الجدار العنصري أو في هدم البيوت واقتلاع الأشجار وسرقة المياه وبناء مستوطنات.
الخطوة الأوروبية لا شك ناقصة ولكنها تعتبر قانونيا نقطة إيجابية لمصلحة الجانب الفلسطيني وإشارة تدل على بداية متغيرات معقولة في السياسة الدولية. فالكيان العبري كما يبدو لم يعد حاجة ملحة في المعيار التاريخي كذلك بدأ يفقد جغرافيا وظيفته السياسية وأخذ يتحول تدريجيا إلى ثقل مزعج يكلف الولايات المتحدة ودول الاتحاد ثروات يمكن استخدامها في حقول أخرى تعطي نتائج استثمارية أفضل.
حكومة نتنياهو تعاملت مع الخطوة الأوروبية بحياء وسلبية ولكنها أدركت ضمنا منطقها القانوني ومعنى التجرؤ على كسر محرمات ومقدسات كانت تراهن عليها سابقا لتغطية الاحتلال وتبرير العدوان. والمتغير الذي حصل في التقليد الأوروبي دفع الحكومة الإسرائيلية للتهرب والذهاب إلى الكنيست والتسريع في إصدار قانون يمنع الانسحاب قبل الاستفتاء. ومجرد اللجوء إلى الشعب لتبرير اعتماد مثل هذا الرد الالتفافي على قرارات وخطوات أخذت تتراكم دوليا يشكل بحد ذاته نقطة في إطار تحولات لن تكون حكومات تل أبيب قادرة على تحمل نتائجها في المستقبل.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2654 - الجمعة 11 ديسمبر 2009م الموافق 24 ذي الحجة 1430هـ