شاهدت مؤخرا أربعة صبيان يجلسون لتناول طعام الغذاء قرب شارع بلس في بيروت، الذي سمي باسم الدكتور دانيال بلس، المبّشر الأميركي ومؤسس الجامعة الأميركية في بيروت المقامة على امتداد الشارع المذكور. كانوا يتكلمون عن السياسة وانتخابات الطلبة قبل الانتقال إلى الحرب الأهلية. رغم أن سنهم لم يتعدَّ العشرين سنة إلا أنهم كانوا يناقشون العنف بشكل اعتيادي، وقد عكست نقاشاتهم بغضهم وانعدام ثقتهم الطائفية.
مثّل الصبيان عينة من الجيل الأصغر عمرا في لبنان، الذي يحمل ذاكرة جماعية للحرب الأهلية التي دامت 15 سنة. ويعود ذلك إلى أن تاريخ لبنان الحديث مدفون في كتاب مغلق لا يمكن العثور على مفتاحه.
ولكن كيف يمكننا الآن بناء مستقبل مشترك عندما يتجاهل شبابنا تاريخهم؟ كيف يمكننا تحقيق التسوية والسلام المدني بينما يبقى التاريخ الذي نعرفه مقتصرا وعندما تخدم الحقائق العقيدة وليس الحقيقة؟
كان يفترض بلبنان، حسب اتفاقية الطائف التي عقدت العام 1989 وأدت إلى نهاية الحرب الأهلية أن يوحّد كتب التاريخ ومناهج علم الاجتماع الخاصة به. إلا أنه وبعد مرور عقدين من الزمن ما زالت الدولة تمنح المدارس حرية اختيار كتب التاريخ التي ترغب بتدريسها. ولا تتعامل هذه الكتب مع تاريخ ما بعد العام 1950 بعد انتهاء الحرب العربية الإسرائيلية، ويطرح كل من هذه الكتب وجهة نظر مختلفة نحو الأحداث التاريخية. تعمل بعض الكتب على سبيل المثال على إضفاء الشيطانية على الانتداب الفرنسي، الذي أعطى فرنسا سيطرة على لبنان في نهاية الحرب العالمية الأولى، بينما تفعل كتب أخرى العكس. تختار المدارس عادة كتبها المنهجية بشكل يتماشى مع انتماءاتها الدينية والسياسية.
كانت هناك مناشدات عديدة في السنوات الأخيرة لتبني كتاب مشترك. على سبيل المثال وفي العام 1997، تم تشكيل لجنة لوضع كتاب تاريخ وبرنامج موحّد. إلا أن ذلك لم يصل إلى أية نتيجة.
التفسير الرئيسي لغياب كتاب تاريخ موحّد هو أن الخلافات الطائفية لم يجرِ حلّها وأنه لا يوجد إجماع بين الطوائف الدينية اللبنانية حول التفسيرات المختلفة للماضي. ببساطة، لا يستطيع اللبنانيون الاتفاق على قصة واحدة.
نحن بحاجة لتغيير توجهنا في تأليف كتاب تاريخ موحّد. إلا أن السعي لغرض قراءة مشتركة للتاريخ واستخدام الأسلوب التقليدي بغرض تفسير واحد للأحداث يفترض أنه يمثل «الحقيقة» هو أمر غير واقعي في المضمون اللبناني. يرتبط كل من المجتمعات الدينية اللبنانية المختلفة بثقافتها وذاكرتها وشهدائها. لدى الأحزاب السياسية قراءتها الخاصة للتاريخ.
لماذا يتوجب علينا في الواقع أن نبحث عن قصة واحدة في دولة جرى تشكيل تاريخها من جانب قصص ثقافات ومجتمعات محلية مختلفة؟ الآن يمثل ذلك رفضا وإنكارا لهوية لبنان التعددية؟
ما نستطيع عمله بدلا من ذلك هو إعداد كتاب غير سياسي وغير أيديولوجي يعرض تتابعا زمنيا للحقائق والأرقام والأحداث: «قم بإعداد الحقائق أولا وتستطيع بعد ذلك تشويهها كما ترغب»، كما كتب مارك توين مرة.
يمكن بعد ذلك وصف الحقائق وأسبابها ونتائجها باستخدام الإثباتات والمصادر من المجتمعات أو المجموعات المختلفة المشاركة في أي قصة معينة. سوف يستخدم كتاب تاريخ كهذا توجها مقارنا ، واضعا وجهة نظر حيال حدث ما إلى جانب وجهات النظر الأخرى. بذلك يُلقي عرض الطروحات المختلفة الضوء على النواحي المتماثلة وعلى الخلافات والتناقضات، الأمر الذي يوفر مساحة لقيام الطالب بالتحليل والنقاش.
سوف يتمكن الطلبة بعد ذلك من الانخراط في عملية تعلُّم بنّاءة، مبعدين أنفسهم عن العقائد والعواطف، وبناء شعور مستقل بالنقد حيال ما حدث. سوف تمكّن وجهات النظر التي تنتج عن ذلك الطالب من إغناء تمكّنه من الواقع وتشجّعه على احترام التنوع وفهم التشوهات والصور النمطية التي جرى في الماضي تشجيعه على تبنيها.
لقد استخدم هذا التوجه في تدريس التاريخ في بعض الدول الأوروبية، ومن الأمثلة على ذلك مشروع جنوب شرق أوروبا المشترك للتاريخ. سعت مجموعة من المؤرخين والباحثين في البلقان لتشجيع التفاهم عبر الثقافات والاستغناء عن الصور النمطية الواسعة والتفسيرات التاريخية الوطنية العرقية المركزية، فقاموا بإنتاج أربعة كتب في التاريخ وقدموا مواد ووجهات نظر من 11 دولة في المنطقة. وفي أبريل/ نيسان 2009 ناشد البرلمان الأوروبي السلطات التربوية ذات العلاقة تبني الكتب التي أنتجها المشروع. وقد وافقت اليونان، كبداية على استخدام هذه الكتب في المدارس الثانوية.
تعتبر أهمية الـ «كيف» بمثل أهمية «ماذا» عند تدريس التاريخ. وكما كتب روبرت سترادلينغ، أستاذ التاريخ السابق بجامعة ويلز في كتابه «تبني وجهات النظر المتعددة في تدريس التاريخ: دليل للمعلمين»، «سوف يعتمد مدى إمكانية حل هذه المشاكل المتعددة، وخاصة احتمالات تعلّم الصعوبات المتعلقة بتبني وجهات النظر المتعددة، على توجه الأستاذ الشفهي نحو التاريخ وكيف يعمل على إعداد طلبته».
يجب تدريب أساتذة التاريخ على التعامل مع التوجهات التاريخية متعددة وجهات النظر وإدارة المواضيع الحساسة وتوفير مصادر قراءة قيّمة مثل مقالات الصحف وقصاصاتها، الأمر الذي يوفر وجهات نظر مختلفة ويشغل الطلبة في حوارات ويشجّع البحث الناقد.
يمكن لاستخدام وجهات نظر متعددة في التاريخ أن يشكّل مهمة معقدة. ولكن في دولة مثل لبنان، يعتبر البحث عن الحقيقة عملية دينامية من الحوار المستمر، ومجتمعات تنفتح على بعضها بعضا وتتشارك في قصصها.
يشكل استخدام وجهات النظر المتعددة في تدريس التاريخ التوجه الصحيح لمباشرة بناء ذاكرة جماعية يمكن لأطفالنا من خلالها قراءة القصص المختلفة ولكن دون أن ينسوا مضمون الفصل الواحد.
صحافية لبنانية مستقلة ومنسّقة شبابية وعضوة في المجلس التنفيذي للحزب الأخضر في لبنان، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 2654 - الجمعة 11 ديسمبر 2009م الموافق 24 ذي الحجة 1430هـ