جلبت تهمة التكفير غضب الجمهور والعلماء والفقهاء والمتكلمين إذ ان قيمة الامام العزالي الفقهية والفلسفية والفكرية والصوفية كانت كبيرة وحاضرة في المشرق والمغرب. ومن المنطقي ان لا يتقبل العلماء والفقهاء والجمهور تلك التهمة الظنية من قاضٍ ولد بعد 15 سنة من رحيل الامام الغزالي. فالتهمة أولا باطلة لانها لا تعتمد على مسائل فكرية كما فعل الغزالي في سجاله ضد الفلاسفة، كما أنها تستند على فرضية افشاء سر علم التأويل إلى العامة وهي تهمة لا أساس شرعيا يمنعها أو يحرمها إلا تأويلات ابن رشد الخاصة لبعض الآيات القرآنية (أولو الألباب) و(الراسخون في العلم). فابن رشد يكرر التهمة ويعيد تركيبها وانتاجها ثم العودة إليها ثم إعادة كتابتها وهي كلها لا تخرج عن دائرة فكرة واحدة لخصها مرارا، كقوله مثلا «وهذه هي حال من يصرح بالتأويل للجمهور ولمن ليس هو بأهل له من الشرع. ولذلك هو مفسد له وصاد عنه والصاد عن الشرع كافر» (ص 54).
ويلاحظ من كلام ابن رشد وتكرار التهمة وإعادة إنتاجها بصيغ مختلفة انه لا يمتلك غيرها وهي في النهاية تصب في صالح الإمام الغزالي لأنه كان له الفضل في نقل المعركة الفكرية من الكواليس السرية إلى مختلف المنابر ومقارعة الحجة بحجة أقوى، وهو أمر ساهم للمرة الأولى في فصل جوهر الفلسفة الإسلامية عن غيرها من تيارات فلسفية وتوضيح أسسها المختلفة والمستقلة عن الاتجاهات الاخرى. فالإمام الغزالي بسجاله الفلسفي ضد الفلسفة أسس منطلقات جديدة لعلم الفلسفة الإسلامي.
لا يكتفي ابن رشد بتوجيه التهمة للإمام الغزالي، بل أنه يكررها ويوجهها للمعتزلة والأشاعرة وبعض الفرق الإسلامية. وعلى رغم انه يعتبر «المعتزلة أوثق أقوالا من الأشعرية» (ص 52) يعود ويرى ان الاشعرية «أقل تأويلا» ويشن عليهما حملة بذريعة تصريح «تأويلهم للجمهور» فأوقعوا «الناس من قبل ذلك في شنآن وتباغض وحروب، ومزقوا الشرع وفرقوا الناس كل التفريق» (ص 55). ثم يكفر الأشعرية بذريعة انها كفرت الناس ومن لا يؤمن بتصورها. ويرى ان تصورها فيه كفر بثلاث مسائل: ثبوت الاعراض وتأثير الأشياء بعضها في بعض، ووجود الاسباب الضرورية للمسببات، والصور الجوهرية والوسائط. ويعتبر ان الاصول «التي بنت عليها الاشعرية معارفها هي سوفسطائية» (ص 55 - 56).
نلاحظ التناقض في أفكار ابن رشد فهو يعتبر ان من حق الفلاسفة النظر في الاشياء وقراءة كتب الآخرين واستعمال آلاتهم الفكرية واستخدام البرهان للتعرف على الموجودات شرط الإقرار بالأصول الشرعية الثلاثة ثم يعود ويشن حملة على المعتزلة والاشعرية والمتكلمة وبعض الفرق الإسلامية، ويخص الإمام الغزالي بهجوم مستقل بذريعة انه لا يجوز فضح أفكار الفلاسفة وكشفها أمام الجمهور (والعامة) لأن ذلك يفسد ايمانه ويشتت عقله ويقسم الشارع الإسلامي ويمزق الشريعة إلى مذاهب تتقاتل. ويعتبر ان فعل الفلاسفة ليس كفرا بل الكافر هو من يكشف سر فلسفتهم ويخرجها إلى العلن. وكأن المشكلة هي في سرية الافكار أو في علنيتها وليس في صحتها أو عدم صحتها.
الغريب ان ابن رشد الذي اخذ مواقف الفلاسفة ضد العلماء والفقهاء يتشدد في نقد ابن سينا والفارابي في «فلسفة الفيض» وخلطهم بين ارسطو وأفلاطون وهي الفكرة التي ركز الغزالي في نقده للفارابي وابن سينا عليها. واغرب من ذلك ان ابن رشد الذي دافع عن التأويل وحق الفلاسفة في تأويل ظاهر النص وكشف باطنه ينقض نفسه ويناقضها عندما يترحم على الصدر الأول من الإسلام وبرأيه «ان الصدر الأول انما صار إلى الفضيلة الكاملة والتقوى باستعمال هذه الأقاويل دون تأويلات فيها، ومن كان منهم وقف على تأويل لم يرَ أن يصرح به. اما من أتى بعدهم فإنهم لما استعملوا التأويل قل تقواهم وكثر اختلافهم وارتفعت محبتهم وتفرقوا فرقا» (ص 56-57)
هكذا ينتهي ابن رشد في كتابه «فصل المقال» إلى الاختلاف مع الجميع والدعوة إلى العودة إلى الصدر الأول في الاسلام. فهو يهاجم الفلاسفة لأنهم آذوا الفلسفة بخلطهم بين المذاهب «وقد آذاها ايضا كثير من الأصدقاء الجهال ممن ينسبون أنفسهم إليها، وهي الفرق الموجودة فيها» (ص 58). ويهاجم الغزالي لأنه نقل الخلاف مع أهل التأويل من السرية إلى العلنية. ويهاجم المعتزلة في تأويلهم الشرع في ضوء العقل. ويهاجم الأشاعرة في تأويلهم الشرع في الجمع بين العقل والنقل، ويكرر مهاجمته للفلاسفة لأنهم نسبوا أنفسهم إلى الفلسفة. ودعا أخيرا الجمهور «إلى طريق وسط ارتفع عن حضيض المقلدين وانحط عن تشغيب المتكلمين» وفي الآن نبه الخواص «على وجوب النظر التام في أصل الشريعة» (ص58).
وهكذا تنتهي عقلانية ابن رشد بالخبط العشوائي وتوزيع التهم، ولم يهدأ الا بعد «الضميمة». وهو مقال ألحق بكتاب «فصل المقال» ويقال انه اصلا رسالة توضيحية موجهة إلى أمير الموحدين الثاني الذي التقى به واتعبه بأسئلته المحرجة وناقشه بأفكاره الأمر الذي جعل ابن رشد يعدل مواقفه من مسألة العلم ويقسمها إلى قسمين: علم الله وعلم الإنسان.
ماذا تقول رسالة «الضميمة»؟ يبدأ ابن رشد من قاعدة نظرية عامة «من لم يعرف الربط لم يقدر على الحل». (ص 59). ثم يرد على فكرة الامام العزالي التي تتحدث عن العلم والمعلوم بصفتهما من المضاف ويتغير أحد المضافين ولا يتغير المضاف الآخر. ويرى ان العلم يتغير ولأنه يتغير لا يجوز قياس العلم القديم على العلم المحدث لانه كقياس «الغائب على الشاهد» (ص 61). ويستنتج بأن صفات العلم القديم غير صفات العلم المحدث. فالعلم علمان القديم يتعلق «بالموجودات على صفة غير الصفة التي يتعلق بها العلم المحدث». لذلك يجب ان يكون للموجودات «علم آخر لا يكيف وهو العلم القديم سبحانه».
وينتقل فورا للرد على الغزالي الذي يرى ان تحول الشيء لا يغير ذاته، ويبرر كلام الفلاسفة ويدافع عنهم لأنهم اتُهموا بأن «سبحانه لا يعلم الجزئيات» وهم لم يقصدوا ذلك لأن الكليات تتضمن الجزئيات ومن يعلم الكل يعلم الجزء، ويرون «انه لا يعلم الجزئيات بالعلم المحدث الذي من شرطه الحدوث بحدوثها».
بالتقسيم التدرجي المذكور تستقل فلسفة ابن رشد عن الفارابي وابن سينا وفي الآن نفسه عن الامام الغزالي، فهو من ناحية يرى ان الكليات تتضمن الجزئيات وعلم الجزئيات لا يمكن فصله عن علم الكليات، ومن ناحية يضع العلم على مستويين الأول القديم والثاني المحدث. ولكل علم طريقته في معرفة الكليات والجزئيات ولا يجوز مقاربة الثاني بالأول لأن المحدث متغير والقديم لا يتغير لذلك من الصعب قياس المتغير (الحكمة) على الثابت (الشرع).
على رغم ان فكرة ابن رشد في «الضميمة» انقذته من مواجهة مبكرة مع أمير الموحدين إلا انه أوقع نفسه بمشروع مضاد لمشروع فلسفته التي هدفت أصلا للتوفيق بين الفلسفة والدين أو «تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال». فانتهى في «الضميمة» من حيث ابتدأ في منظومة جديدة. وهنا يبدأ تناقض ابن رشد الذي حاول حله في عهد المنصور (الأمير الثالث) حين عاد وانتقد الخلط الايديولوجي الذي وقع به تيار الفلاسفة وخصوصا الفارابي وابن سينا وأخذ بتوضيح افكار ارسطو، فاعتبر ان الفلاسفة المسلمين لم يفهموها بسبب الالتباس الذي حصل عندهم. ثم عاد وركز انتقاده للفلاسفة على فكرة «الفيض» التي اعتبرها غير ارسطوية وغير عقلانية. وهنا بالضبط التقى مع صاحب «تهافت الفلاسفة». فالغزالي انتقد الفارابي وابن سينا بسبب اعتناقهما فلسفة «الفيض» ولم يعترض كثيرا على أفكارهما المنطقية والرياضية والسياسية التي اعتبرها احيانا «إسلامية».
بسبب المفارقة المذكورة بدأت مأساة منظومة ابن رشد الفكرية وارتباك موقفه. فإذا كانت فكرة «الفيض» خاطئة، اذن يكون انتقاد الامام الغزالي صحيحا. لكن ابن رشد تمسك بالموقفين واختصر رأيه بحق الفلاسفة المسلمين في استخدام «آلة تفكير» في تحليلهم المنهجي ما دامت تلك الآلة لا تتعارض مع الشرع. وهو أمر لجأ إليه، كما يقول ابن رشد، معظم الفقهاء المسلمين عندما استخدموا القياس الارسطوي في دفاعهم عن الشريعة.
بسبب موقفه الوسطي بين تياري «فقهاء الفلسفة» و«فلاسفة الفقه» ضاعت أفكار ابن رشد النقدية بينهما وهو ما عرضه إلى نقمة الاتجاهين، فاضطر إلى الانتقال من موقع الهجوم إلى خط الدفاع حين حاول التوفيق بين الشريعة والحكمة أو الشرع والعقل أو الدين والفلسفة وتشديده على لا تناقضهما في الجوهر ثم عاد وتراجع ووافق على فصلهما إلى علمين مختلفين كما فعل الغزالي.
ساعد هذا الموقف المتأرجح العلماء والمتكلمين على الرد على ابن رشد وتوضيح الفروق الجوهرية بين الجدل الإسلامي والجدل اليوناني وبين قياس ارسطو المنطقي ومنطق القياس في الفلسفة الإسلامية. واعتمد الفقهاء في شروحهم وتوضيحاتهم وردودهم على الغزالي الذي نجح في توكيد الاختلاف في رده على الفلسفة اليونانية وتنقية العقيدة الإسلامية من الخلط والاختلاط، لذلك اعتبر الامام الغزالي المؤسس الفعلي للفلسفة الإسلامية واستقلال منظومتها عن الفضاء الاغريقي وجاء من بعده الرازي (فخر الدين) ليطور استقلال المنظومة.
لا يختلف موقف ابن خلدون الذي قرأ المجادلات في مقدمته عن غيره. فهو فلسفيا يسخر من ابن رشد الذي اتبع فلسفة اليونان خطوة خطوة وحرفا بحرف في حين حاول الفارابي تمييز نفسه عنها، كذلك فعل ابن سينا في مساهماته الكثيرة وأكد على استقلاله واختلافه عن ارسطو وافلاطون. وتظهر شكوك ابن خلدون في تصنيفات ابن رشد لكتب ارسطو وافلاطون (بسبب جهله اليونانية) فهو يرى ان قاضي قرطبة أدخل أفكاره لأنه اعتمد الانتقائية والترجيح، لذلك استخدم صاحب المقدمة مفردة الكتاب «المنسوب» إلى ارسطو، وهو دليل على شكه بصحة أفكار ارسطو التي نسبها إليه ابن رشد.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2653 - الخميس 10 ديسمبر 2009م الموافق 23 ذي الحجة 1430هـ
ابن رشد لم يقع في التناقض
لم يخطيء ابن رشد في قوله الامور الفقهية ليست لعامة الناس بدليل مانراه من بغضاء بين المسلمين بسبب اعتناق كل واحد مدهب فلو بقيت هده الاراء فقط بين الفقهاء لما تناحر الناس هكدا ولكان تصرف الفقهاء اكثر حكمة ثانيا ابن رشد لا يناقض نفسه بل ان فلسفته دات نسق متسق لم يستطع احد هدمه ولا انت..قلت تعارض في تكفيره للغزالي هده قرائة خاطئة منك لابن رشد ربما لم تقف عند ما قاله ابن رشد عن الاجتهاد فهو يعتبر الغزالي ابن سينا والفرابي مجتهدين لم يكفر احدا فيهم بل ان المجتهد يؤجر اجران ادا اصاب وادا لم يصب فله اجر
فلسفة
موضوع جد رائع لكن نريدها على شكل جدالية (مقدمة. نقد .تركيب )(خطوات الجدالية)من فضلكم شكرا