في عالَمٍ مُضطرب ومليء بالوقائع تحتاج الذاكرة إلى رديف. والرديف كما يراه محمد حسنين هيكل هو عبر «تسجيل الاجتماعات بالصوت والصورة أثناء وقوعها لكي يمكن الإمساك بالتاريخ حيا مرئيا ومسموعا».
طوّر هيكل من ذلك الرديف، بأن حوّله إلى صِيَغ تقليدية في وعاء حديث (على غِرار قول الأشاعرة في حرّية الإنسان وجبريّته) ولأن وسائل الإعلام استغرقت في الأخبار وجَافَت الأفكار، فقد أصبح لِزاما أن يُرَشَّق الخبر بقراءة ما قبله وحينه ولاحقه، لكي تُفهَم الأمور كما يجب.
فوَفْرَة الأخبار وتدفّقها اللحظي يحتاج إلى إعادة تموضع. كيف يُمكن تسخير كلّ ذلك الكمّ الهائل من الأخبار لقراءة الواقع والمستقبل معا؟ كان المسعَى أن يوضع مسار له أرصفة ونقاط عبور استدراكيّة لتحقيق ذلك.
وأمام الرغبة في التحكّم بالأخبار الوفيرة ووضع المسار الصالح لها، أصبحت الحاجة ماسّة لأن يُستدَعَى التاريخ المُحصّن بالتدوين والتسجيل والقراءة وليس التاريخ المرهون في الصدور والذاكرة المُطلقة.
يُسجّل هيكل (كما يذكر عادل حمّودة) ما بين 10 و 100 ورقة يوميا. عندما يتحدّث مع أحد المسؤولين يقوم بتدوين كلّ ما سمِعه ورآه. وهو على هذا الدّيْدَن منذ العام 1948 عندما بدأ في الكتابة منتظما وكان عمره حينها 25 سنة.
تحدّث هيكل مع حسن باشا فسجّل ما دار في 32 ساعة. وسجّل ما دار بينه وبين محمود فوزي فسجّل أربعين ساعة نقاش. وتحدّث مع الإمام الخميني في باريس ثم في قُم فَكَتَبَ رؤيته لأحداث إيران الثورة «مدافع آية الله».
وتحدّث مع هنري كيسنجر فدوّن كلّ ما دار في واحد وستين صفحة. وأحضر معه 600 - 700 ألف وثيقة إلى صحيفة الأهرام عندما كان رئيسا لتحريرها حتى الثامن عشر من أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1971.
كان هيكل يُصرّ على الاحتفاظ بقصاصات أخبار كُتِبَت في عشرينات القرن الماضي. فهو وفي هذا السّن بات يعتقد بأن تيار الشيخوخة هو كخزّان مثقوب القعر تتسرّب منه الذاكرة على حدّ تعبير جابرييل غارسيا ماركيز.
عندما يتكلّم الرجل فإن تاريخا بأكمله ينهض معه وبجواره. وعندما يُفسّر الأحداث فهو لا يقول إلاّ ما يَشْخَصُ به الواقع فعلا. ولأنه مُزدحم بالأفكار والأحداث فإنه وفي أحيان كثيرة يضطرّ إلى حرق بعضها لصالح أخرى يعتقد بأنها أهم.
شهادته على الأحداث عادة ما تكون مُذيّلة (أو مُصَدَّرَة) بتزكيات رجال السّاسة الكبار. فبعض كتبه مُمضاة من قِبَل رؤساء للجمهورية، كما في حالة الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتيران.
ثم إنّها كذلك حين تتداعى لها دُور نشرٍ عريقة في العالم من اليابان وحتى الولايات المتحدة، فتُترجمها إلى أزيد من ثلاثين لغة. ثم تزداد متانتها حين يُعلَم بأن تدويناتها لا تقلّ عن مشاهدات حيّة منه لأصحاب الفِعل والقرار في العالم.
مَنَحَت كتابات هيكل صاحبها حضورا دوليا وإقليميا واسعا، لكنها أيضا أنتجت له أعداء كُثُر، بعضهم ذوو مناصب رسميّة كبيرة (السادات مثالا) وبعضهم من الوسط الصحفي نفسه (علي/ مصطفى أمين).
وعلى رغم أن هيكل لم يكن يُؤمن بأن الصحافة هي مجالٌ للقضم الشخصي، لكنه ردّ على السادات بكتاب «خريف الغضب»، وردّ على مصطفى أمين بكتاب «بين الصحافة والسياسة» لكنه أيضا امتنع أن يردّ على العشرات ممن استفادوا من فترة غياب الناصريّة.
اليوم يدخل هيكل عامه السادس والثمانين. وهو وأمام ذلك العمُر (المديد إن شاء الله) شاء أن يحفظ ذاكرته ومشاهداته في أسفار وتدوينات ثمينة. وهو باعتقادي حقّ عليه تجاه الجميع، وحق على الجميع أن يقرأه.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2652 - الأربعاء 09 ديسمبر 2009م الموافق 22 ذي الحجة 1430هـ
هيكل
الغريب في امر حسنين هيكل انني ومنذ وعيت على هذه الدنيا واسهمه وشهرته واسمه يعلوا ويسموا وهو في الحقيقة كاتب مبدع