انتقال سعد رفيق الحريري من موقع رجل المعارضة وابن الشهيد وأحد قادة حركة «14 آذار» إلى موقع رجل الدولة ورئيس حكومة وطنية (وفاقية) وزعيم غالبية نيابية يشكل خطوة نوعية تستحق المراقبة للاطلاع على المتغيرات السياسية في المشهد اللبناني. فالخطوة ليست بسيطة في بلد يعيش حالات من التأزم الاقليمي المعطوف على استقطابات طائفية ومذهبية اخذت ترسم خريطة تحالفات في الجوار الجغرافي.
هناك الكثير من الاستحقاقات تنتظر رئيس الحكومة في المرحلة المقبلة، وهي في مجموعها تحفر خطوط تماس متوترة بين مهمات رجل الدولة ومتطلبات ابن شهيد. والتعارض بين المهمات والمتطلبات يصعب اختزاله في عناوين عامة لأنه يتجاوز في جوهره حدود احتمال حصول تضارب بين الصورتين: رئيس حكومة وابن شهيد.
الأسابيع الآتية ستتكفل بتوضيح تلك المفارقات والملابسات حين تبدأ المحكمة الدولية بشأن جريمة اغتيال رفيق الحريري وكل الجرائم التي ارتكبت في بلاد الارز منذ العام 2004 إلى العام 2009 أعمالها الموقوفة حتى الآن. فالمحكمة التي شكلت نقطة مركزية في أنشطة حركة «14 آذار» أصبحت على قاب قوسين من قول ما تعرفه عن الجهة (أو الجهات) التي خططت ومولت وسهلت ونفذت الجرائم. كذلك سيكون لنطق المحكمة مجموعة تداعيات وقراءات لا يمكن تجاهل مستحقاتها بغض النظر عن طبيعة الحكم القانوني واحتمالاته وصحته التقنية والفنية ومدى صوابية أدلته الدامغة.
مسألة المحكمة المسكوت عنها في الخطب السياسية المتداولة حاليا قياسا بالشهور والسنوات الماضية تفترض حصول احتمالات يمكن عزلها عن موقع «رجل الدولة» وتأثيراتها النفسية على دوره الرسمي ولكن من الصعب فصلها عن انعكاساتها المتوقع حصولها في إطار تجاذباتها المحلية والاقليمية. فالاغتيالات التي امتدت على فترة زمنية تجاوزت السنوات الخمس لم تقتصر على منطقة بعينها أو على طائفة واحدة وانما انتشرت جغرافيا وتواصلت وتدحرجت لتتوقف فجأة قبل أن تعقد المحكمة الدولية جلستها الأولى.
توقف الاغتيالات طرح اسئلة بشأن الأسباب التي شجعت على تجميدها، فهل الأمر له علاقة بالفاعل فقط أم يتصل ايضا بالمفعول به؟ المسألة تبدو جدلية لأنها تحتمل تفسيرات وتأويلات يصعب ضبطها في سياق منطقي وتطرح تساؤلات عن معنى التحقيق الدولي بشأن الاغتيالات وجدوى المحكمة في حال جرى التوافق على محاصرة الموضوع خارج القنوات القضائية.
المسألة إذا مؤقتة ولا تزال مفتوحة على احتمالات تبدأ باقفال الملفات واغلاق أبواب المحكمة قبل ان تباشر أعمالها الرسمية وتنتهي بترك القضاء الدولي يقوم بمهماته باستقلال مهني وخارج السياق السياسي للأزمة اللبنانية وامتداداتها الاقليمية. وبين الاحتمال الأول والأخير هناك مسافة زمنية تحتاج إلى خطوات عملية وآليات ميدانية حتى تصبح الملفات القضائية مجرد أوراق تجاوزها الزمن. فهل تقفل الملفات وتوضع الجرائم في خانة «المجهول» أم تفتح أوراقها على أبواب سياسية يمكن أن تزعزع الاستقرار الداخلي وتدفع بالطوائف والمذاهب مجددا إلى ساحات الاستنفار الأهلي والتجاذب المناطقي؟
الجواب مؤجل لأنه من جانب ينتظر بدء المحكمة أعمالها خارج الأراضي اللبنانية ولأنه من جانب آخر يتوقع أن يكون لكل خطوة قضائية تأثيرها السياسي - النفسي الداخلي على المنظومة الائتلافية للحكومة التي يرأسها ابن الشهيد.
المفاضلة هنا ستلعب دورها في حسم التوجهات والخيارات باعتبار أن القوى المعنية بنهايات التحقيقات الدولية بشأن الجرائم كثيرة ومتنوعة الاتجاهات في تلاوينها الايديولوجية وانتماءاتها المذهبية والطائفية. والمفاضلة بعينها تشكل بحد ذاتها ذاك التحدي الكبير لرجل الدولة لانها ستكون خطوة أولى في منعطف سلوكه الشخصي ومهماته الرسمية. وعملية الفصل بين الموقع السياسي والضغوط النفسية مسألة ليست بسيطة ولا يمكن تجاوز تأثيراتها في حال حسمت المحكمة الوجهة والجهة وحددت الطرف (أو الأطراف) المسئول عن الجرائم.
هناك توقعات كثيرة يمكن افتراض حصولها في حال واصلت المحكمة الدولية أعمالها الروتينية من دون تدخلات أو من دون اكتراث لنتائج قراراتها وبلاغاتها. إذا توصلت المحكمة إلى تصورات «ضبابية» بشأن الجرائم سيكون لها تداعياتها السياسية من جهات مختلفة أو متضررة من الاتهامات السابقة. وإذا توصلت إلى توزيع الاتهامات على أطراف متنوعة سيكون لها تداعياتها أيضا لأن توسيع شبكة المسئولية سيزيد من صعوبات الملاحقة والتعقب. وإذا حصرت الجرائم في طرف محدد وبشكل قطعي ومن دون مواربة فمعنى ذلك ان هناك مجموعة التزامات على الحكومة اللبنانية تتطلب منها اتخاذ ترتيبات عملية للتجاوب القضائي معها.
كل الاتجاهات المفترضة مفتوحة على الأزمة وهي في مختلف منعطفاتها تؤشر إلى احتمال عودة الاحتقان إلى الساحة اللبنانية في المرحلة المقبلة في حال قرر القضاء الدولي استكمال مهمته من دون انتباه لتلك الارتدادات المتوقع حصولها. القرار الوحيد الذي ينقذ بلاد الأرز من التوتر الأمني هو الأصعب لأنه يتطلب توافقات خارج جدران المحكمة تعطل القضاء عن مواصلة تحقيقاته من خلال الاعلان عن إحالة الملفات كلها إلى المجهول.
حتى الآن تجمع كل القوى على أنها ترفض المقايضة أو المبادلة وتنفي وجود صفقة دولية واقليمية بشأن أعمال المحكمة وتحقيقاتها بذريعة أن المسألة خرجت من إطار القضاء اللبناني وتجاوزت حدود بلاد الأرز ولم تعد الدولة مسئولة رسميا عن أوراقها وملفاتها. وهذا الاجماع على استقلال المحكمة وعدم تأثرها بالفضاءات الدولية والمناخات الاقليمية ومجرى الرياح الباردة والساخنة في المنطقة يطرح ضمنا احتمالات قد تكون مخالفة لتلك التطمينات والضمانات المشار إليها في التصريحات والبيانات الصحافية.
هناك لا شك زاوية غامضة في المسألة. والزاوية المبهمة احيانا تشكل حجر الأساس في قراءة المقدمات والاستنتاجات لأنها قد تكون الموضوع المركزي المسكوت عنه أو المطلوب إقفاله من دون ضجيج أو صراخ.
الأسابيع المقبلة ستكشف الكثير من الأوراق في ملف دموي كان له دوره في خلط التحالفات وتدوير القضايا وزعزعة الاستقرار وتأسيس مواقع وتضخيم بطولات وافتعال عداوات وهمية وإعادة هيكلة توازنات في المعادلة اللبنانية. والفترة الفاصلة بين تسلم ابن الشهيد مهماته في رئاسة الحكومة وبين صدور لائحة الاتهامات عن المحكمة الدولية تشكل في مجموعها العام لحظة انتقالية بين استحقاقات تتطلب الحذر في التعامل معها واحتمالات قد تفتح ساحة بلاد الأرز على تحديات لن تقتصر تجاذباتها على الدائرة اللبنانية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2652 - الأربعاء 09 ديسمبر 2009م الموافق 22 ذي الحجة 1430هـ