العدد 2652 - الأربعاء 09 ديسمبر 2009م الموافق 22 ذي الحجة 1430هـ

ضدّ إفساد الشِّعر

راس الخيمة - عبدالعزيز جاسم 

09 ديسمبر 2009

صراع الشِّعر مع الشاعر، والعكس صحيح أيضا، هو حالة فرادة استثنائية مكتملة ومستمرة. فرادة لا يتحملها سوى شعراء المنقلب الآخر وحدهم، وليس شعراء الابتذال اليومي والطنين الزائف. فرادة هائلة، مريرة، فاتنة، فظيعة، صامتة، وأبدية. إنها فرادة تشبه، مَنْ يعثر على بحر في صندوق قراصنةٍ أجلاف. إنه صراع لا تراق فيه الدماء، بل تولد من رحمه الحقيقة، الحقيقة الشِّعريّة. حقيقة ما لا يُرى، أو يُسمع، أو يكون له وجود ظاهر. حقيقة هذه الأصوات الضائعة، المتوارية، الخفية، بين ركام هذا الوجود. هذه الأصوات، أصوات الأشياء ذاتها، التي هي ليست بالمنفصلة عن صوت حاضنها الكوكبي الأكبر:الكون! فما تعرضه علينا القصيدة، بحسب أوكتافيو باث، لا نراه بأعيننا التي من لحم بل بأعين الروح. لأن الشِّعر يجعلنا نلمس ما لا يُلمس، ونستمع دوار السكون مغطيا مشهدا دمره السهاد.

هكذا مثلا، استطاع فيلسوف ما قبل الميلاد الإغريقي فيثاغورس، وهو - بالمناسبة - أول من أطلق لفظة «كوسموس» (الكون) على العالم؛ اكتشاف العلاقات العدديّة للنوطات الموسيقية، عندما أكتشف «موسيقا الأفلاك» قبل ذلك. وهذه الموسيقا الفلكيّة، بحسب نظرية فيثاغورس ذاتها، تحدث عندما تتحرك الأجرام السماويّة في مداراتها الفضائية، بحيث تصدر أصواتا خاصة بكل كوكب من الكواكب، وتشكل بهذا ائتلافا صوتيا منتظما وموحدا ومتعددا. ولعل هذا الإئتلاف الصوتي لموسيقا الأفلاك، قد اكتشف الهرامِسة القدماء في الإسكندريّة شيئا مشابها له قبل فيثاغورس بكثير، وهو الذي تعلَّم في مراحله الأولى على أيديهم في الأساس، وذلك عندما تحدثوا عن نظرية «الترابط الموسيقي للأشياء» في الكون.

إن هاتين النظريتين الصوتيتين: موسيقا الأفلاك الفيثاغوريّة وموسيقا الأشياء الهِرْمِسيّة، وبعيدا عن ترجيعات نظرية الايقاع الكلاسيكيّة، تجعلنا كشعراء وكمهتمين بالفكر الشِّعريّ، اليوم، أن نعمل على توسيع قارات القصيدة وأن نضخ الدّم في أممية الشِّعر، وذلك بالمعنى الفيثاغوري والهرمسي للكلمة. ولعل هذا لن يتم، إلاّ عبر اصغائنا العميق لأصوات الوجود وانفتاحنا الشاسع على «الإيقاعات الكونيّة» الفريدة، واصطياد «الأصوات الشاردة» والضائعة في مسارب العالم. فالإيقاع الشِّعري بمفهومه الشمولي، بقدر ما هو «اتجاه» و«معنى» و«زمن أصلي» و«حضارة»؛ فهو من جهة أخرى ليس حِكْرا على أبناء الأرض وحدهم، ولا على كوكبنا الجميل والصغير وحده. ولعل هذا ما ينبغي علينا الالتفات إليه، من الآن فصاعدا، عندما نتحدث عن مستقبل الشِّعر وفرادته. فنحن وأينما اتجهنا وأدرنا رؤوسنا وارتحلنا بمخيلتنا، سنجد بأن هناك ملايين الإيقاعات الكونيّة التي تصدر عن منظومة الأجرام السماويّة أو من يدور في فلكها، أو تلك التي تسكن في الأشياء والموجودات، أو في تلك الإيقاعات الثاوية في طبقات السديم والمطلق والمجاهيل، أو في تلك المصطخبة في أعماقنا ذاتها. فللقمر مثلا، إيقاعه التاريخي والأسطوري، والشَّمس أيضا، وللنباتات والحيوانات، ولكلّ شيء آخر في هذا الوجود. لهذا حذرنا نيتشه، ومنذ أكثر من قرنين تقريبا، من فاجعة نضوب الإيقاعات الشِّعرية في داخلنا، حين قال: من ليس عنده الآن مائة إيقاع أراهن، أراهن أنه سيموت!

(2)

أضف إلى هذا، وإمعانا في التوكيد؛ بأن الإيقاع مثله مثل الكلام، ليس حِكْرا على البشر وحدهم. لأن العالم، كما يقول مرسيا إلياد، يتكلم مع الإنسان أيضا. إنه « يتكلم إلى الإنسان، بإيقاعاته وبطريقته الخاصة في الوجود، وبالبنى التي يظهر فيها». كما « يتكلم من تلقاء ذاته، عن أصله، في المقام الأول، وعن الحدّث الأولى الذي أتى بعده، إلى الوجود. لذلك يغدو واقعيا وحاملا الدلالة والمعنى. إنه يلتقي مع الإنسان في المشاركة بالعالم الواحد»». لهذا ينكشف العالم، في نهاية المطاف، بوصفه « لغة» ثانية يناضل الشِّعر والشاعر على استعادتها وحفظ ماء أصولها الأولى. ولعل القصيدة الوحيدة اليوم، التي تقارب في مسارها التاريخي وتشظِّياتها الإيقاعية الثُرة هذا المفهوم الكوني للإيقاع، هي قصيدة النثر في تجاربها العالية، هنا وهناك وفي العالم كلّه. فهذه القصيدة تنفتح على إيقاعات الكون، من دون أن تستعير نموذجا إيقاعيا جاهزا، بل ومن خلال بنائياتها اللّغويّة ورنين دواخل الكلمات والأشياء والأصوات فيما بينها، تتخلق تلك السمفونية الشِّعرية التي بلا مقامات. قصيدة النثر هي، سمفونية حيّة بلا مقامات وبلا طرق معبدة. لهذا فهي ابنة الصمت، وليست ابنة الضجيج.

فهل يجوز لنا إذا، وبعد كلّ هذا، أن نتكلم عن الأشياء كما لو أنها ولدت خرساء أو بلسانٍ مقطوع؟ أو كما لو أنها بلا أصل ولا جذور، أو كما لو أنها بلا ذاكرة ولا صوت؟ ثمّ كيف نختزل الإيقاعات الكونية للشّعر، في قوالب محددة ومنمطة وجاهزة للاستعمال، ونقول: بأن هذه هي كل إيقاعات الشِّعر منذ فجر التاريخ وحتّى اليوم؟ أليس هذا اجحافا وتتفيها في حقّ الشِّعر، واستبدادا وحجرا على وعي الشعراء في انفتاحهم ورؤيتهم للعالم؟

(3)

صراع الشِّعر مع الشاعر إذا، يستمد قوته من هذه الأرض، أرض الأصوات والأصول الضائعة للأشياء في الكون. ففي هذه الأرض، وعليها، وعبرها، تولد لغة الشاعر. أي اللّغة الثانية للعالم على لسانه، وليس لغة ما هو عامي ويومي ومبتذل. الشاعر بهذا المعنى إذا، يعمل ضدَّ نسيان أصول الأشياء وأصواتها الغائبة، حيث يعيد لها الحياة والنضارة ويبعثها من موتها ونسيانها من جديد. لهذا، فهو بالتحامه بالعالم ونبشه في تلك الأصول القزحية، يعيد للحياة لغتها ونورها وبراءتها وتألقها وحبّها وطفولتها المنسية. إنه يصنع ديمومة الحياة والعالم، ويقف من خلال إيمانه بالقوى الروحية للشِّعر ضدّ قوى الفناء والزوال والرعب والآلية والابتذال، و»ضدّ الصدأ الذي يهدد تصورنا للحب والحقد، للتمرد والمصالحة، للإيمان والسلبية». لأن الشاعر، بحسب تعريف غاستون باشلار، هو «دليل طبيعي للميتافيزيائي الذي يرغب في فهم قوى الاتصالات اللّحظية كلّها، وحماسة التضحية، من غير أن يترك لازدواجية الذات والموضوع الفلسفية الفظّة أن تقسمه، ومن غير أن يترك لثنائية الأنانية والواجب أن توقفه». من هنا، وبهذا الصنيع الكبير للشاعر، وبالرغم من «حرفته الاستلهامية» وعفويته واستقلاليته، بوصفه « رجل البساطة والحامل لكلمات بمثل هذه الأهمية وبمثل هذه القيمة» الجوهرية، يظل الشاعر « هو التواضع كله والخشوع كله»، كما يعبر رنيه شار.

ولكن، قبل هذا، يبدأ الصراع من هنا، من نظرة تجرى في الخفاء، بين الشِّعر والشاعر، مثل لسعة الحبِّ تماما، ثمّ تنقلب هذه النظرة رويدا رويدا، إلى حياة شاسعة وجحيم ملتهب. جحيم ليس مأساويا بالضرورة، ولكنه يحمل من هذه الصفة الكثير. لأن المأساة في منطق الشَّعر، ليست خيارا، ولا اتجاها، ولا تيارا، بل هي من طينة الوجود، الكائن، أساسا. منعجنة به، تسري في عروقه، تنام في أحشائه، تلثم فمه، وتربض على صدره كالحياة أو كالملهاة تماما.

(4)

بهذا الشكل تتمظهر الكتابة الشِّعرية، على أنها «تهيؤ للسفر» وقدرة على الطيران. فذهاب الشاعر إلى الشِّعر، هو أشبه بالذهاب إلى مرفأ أو مطار أو ميناء، أو هو أشبه باجتياز صحراء أو محيط، أو الهبوط ببرشوت في أرض غريبة. إنه الذهاب إلى منطقة السَفَر والمسافر ذاتها. تلك المنطقة السحرية، المضيئة تحت الأرجُل كالهالات في الحلم، والتي توجد في كلِّ شيء وفي أي مكان. كوب مقلوب على الطاولة مثلا. سرير فارغ مرمي في الظلام. رأس خنجر ملطخ بالدَّم ومحشور في غمده. منديل حرير ييسقط مع رأس تمثال. بصمة إصبع على جذع شجرة. عين نمْرٍ جاثمٍ فوق ظلِّه. نجمة عمياء في آخر السماء. كوكب عابس، أو كتف مدينة بلا جُلُود. كلّ هذه المواضع والصور والأشياء والكلمات، مضافا إليها أصوات العالم، هي مواطن السِّحر والإغواء للشعراء. تخومهم العالية. أغوارهم المفتوحة. غاباتهم الجوراسية. أرخبيلاتهم الأزلية. ضفافهم التي لا يسبر غورها. إنهم من تلك البقاع والمواقع السِّرية والخفية في الأشياء وفي الوجود، يحلقون وينفصلون ويُدْهَشُون ويُدْهِشُون. كل موضع، كل مكان، كل شيء، هو بالنسبة للشاعر منصة انطلاق وقفزة في المجهول. عُرْف موجة عالية أو حافة ورقة متدلية، صندوق بويا مشروخ أو كوة فنار في جزيرة مهجورة، لا فرق!. إنها منصات انطلاق شعريّة، لا تعد ولا تحصى ولا تنتهي أبدا. والشاعر بين جميع هذه المنصات، يكون في حالة سفر دائم وحر في مواطِنِ العالم وبواطنه. سفر مجاني للإنصات والمتعة والرؤية والذُهول. ولكن أيضا سفر من أجل تحرير شيء ما، إخراجه من ظلمته، إعتاقه، ووضعه في ضياء القصيدة وتغيير معناه. هكذا سيظل شاعر المنقلب الأخر، من وجهة نظري، هو أخف كائنٍ بشريٍّ في الوجود.

(5)

إن خفّة الشاعر تكمن في لغته، وبمقدار ما تنفتح حواسه على الاتساع والرؤية والصمت دوما. لا تستعبد اللغة الشاعر، وإن حدث هذا فإننا لن نسمع سوى لغة خشبية مُسْتَعْبَده. خفة الشاعر إذا، تحتاج إلى لغة طازجة، تنط كالرغيف من التنور توّا. وهذا التنور لن يكون سوى لغة الشاعر ذاته، الرابضة في جوانياته وكينونته. أليس الشاعر، «هو كلمته»؟ لهذا فإن الخِفة الشعرية، تتطلب لغة حرّة حارة متخففة من أشيائها وثقلها، متخففة من «عالم الكلام الهلامي» وترجيعات صدى المتاحف البارد. فالشاعر أولا وثانيا وثالثا، هو مبتكر لغة. لغة سرانية مدهشة،لا تستجيب إلاّ بمقدار تحقق شعريتها في قصيدة. لأن الشاعر كما يقول أوكتافيو باث، ليس «غنيا بالمفردات الميتة، بل بالأصوات الحية». والشاعر الحقيقي يعلم، بأنه بهذه الفعلة يتلمّس احتمال وجود لغة ما خارج اللغة، حياة ما خارج الحياة، إيقاع ما خارج الإيقاع، خارج الميت والعام معا. إنها اللغة «المعادة إلى إبقاعها الجوهري»، كما يراها ملارمي. وهذا «الإيقاع الجوهري» للغة، يمر بمرحلة تنقية هائلة يقوم بها الشاعر باستمرار، من أجل الحفاظ على طزاجتها والعودة بها إلى مهدها الأول، إلى ما قبل تسمية الأشياء. إلى فطرة تسمية الأشياء من جديد، كما لو أنها لم تُسَمَّ من قبل. إن صائغ الجواهر، ليس إلاّ تحريفا لمسمّى الشاعر. غير أن قوة الشاعر أيضا، تكمن في قدرته على التسمِّية، في رغبته المستميتة لنقل صوت المستحيل. والمستحيل هذا ليس كلمة أو وصفة طبية، إنه كما يُوصِّفه باختين: «عالم بطليموسي، واحد وفريد، وخارجه لا يوجد شيء ولا تُسْتَشْعَرُ حاجة».

(6)

إذن إذا كان الشِّعر، بحسب الإسباني رافاييل أرجولول، هو الذي يجبرنا على أن نرمق ما وراء الحدود ونعود متغيرين، وهو الذي يحثنا على سكنى العالم بأسلوب مختلف». فإنه بهذا ينشر نعمته على العالمين، ويعلِّمنا درس الحساسية صعب المنال، في الفكر وفي الروح وفي المشاعر وفي الكتابة وفي الحياة ذاتها. غير أن هذه النِّعمة الشِّعرية التي هي مصدر الديمومة والتي يحتاجها العالم بقوة اليوم، تتعرض لخطر استغلالها وتحجرها على يد أرباب السوق المعولم. فهذا المد العولمي يريد تحويل الشِّعر، إلى « خطاب تكميلي تابع للإعلام والاستهلاك» المبتذل. أي تحويله إلى لعبة تدر الأرباح على أصحابها فقط، من خلال هذا النوع من الدعايات الرخيصة والمكشوفة. وبهذا الشكل يكون الشِّعر، قد فقد استقلاليته وحريته، وسلم رأسه لمن لا يعرف قيمته، وقبر صوته الآخر الذي هو جوهره في الأصل. لهذا نلحظ مثلا، بأن الشِّعر في المنطقة العربية بالخصوص، قد استشرت فيه حمّى الجوائز والمسابقات وتوزيع الألقاب المضحكة؛ كما تم بسبب هذه الموجة استثارة أوهام وتورمات لا أول لهما ولا آخر. لقد أصبح الشّعر في الخطاب الإعلامي شعر بروزة وبراويز، وليس شعر تجارب صميمية ونصوص كبرى. شعر متاحف وتماثيل شمعيّة، وليس شعر تجريب وتجديد وتوليد حركات شعرية جديدة مثلا. شعر عداوات غبارية وتكفيريات وعصبيات وآفاق مسدودة في الغالب. شعر يمجد فيه الشاعر على حساب الشِّعر، حتى ولو كان شعره لا يساوي ثمن الورقة التي كتب عليها. شعر نجوم وعكاظيات وصخب وجماهير، يصنعهُ المال وتنفخ فيه البوربغندا من روحها العمياء. شعر ينفي الشِّعر، يخنقه، ويخفي صوته الحقيقي، ويعادي جوهره العميق.

هذه الورقة إذا، وفي يوم الشِّعر العالمي، تذهب إلى الجانب الأخر المغيب من المعرفة الشِّعريّة، وترفض جميع الأشكال التي تحاول إفساد الشِّعر والشعراء معا. لأن الشِّعر لا يتبع سوى نفسه، والشاعر الحقيقي يفعل ذلك أيضا، مهما كانت الموجة صاخبة وكانت المغريات كبيرة.

العدد 2652 - الأربعاء 09 ديسمبر 2009م الموافق 22 ذي الحجة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً