بتقادم الزمان وتوسع الرقعة السكانية على جزر البحرين أصبحت بعض المناطق السكنية بعيدة جدا عن مصادر المياه وأصبحت بعض القرى تعتمد على قنوات الماء المكشوفة أو ما يسمى بالنهر كمصدر أساسي للماء وكان نساء بعض القرى تقطع مسافات طويلة لهذا النهر لجلب الماء منه أو لغسل الملابس فيه ولم يكن ذلك بالأمر الهين. لذا كان من الضروري اللجوء لحفر الآبار الارتوازية. وقد كان الناس يقومون بحفر الآبار في بيوتهم ولقد كانت العديد من البيوت يوجد بها بئر في فنائها، والتسمية المحلية للبئر هي «جليب» وهي من الفصحى «القَلِيب» على ما جاء في لسان العرب «القَلِيبُ اسمٌ من أَسماءِ البئر البَديءِ والعادِيَّة، ولا يُخَصُّ بها العاديَّةُ. قال: وسميت قَليبا لأَنه قُلِبَ تُرابُها».
ويستخرج الماء من «الجليب» بواسطة «زيلة» وهو وعاء مصنوع إما من الصفيح أو قد يستخدم الدلو المصنوع من جلد الحيوان، ويدلي غارف الماء الزيلة أو الدلو في البئر بواسطة حبل طويل. إلا أن مياه البئر قلما تستخدم في الشرب وذلك لملوحتها.
نتيجة للوضع السابق من ملوحة ماء البئر وشقاء مهنة جلب الماء كان من الطبيعي أن تنشأ طائفة تحترف بيع المياه العذبة التي تجلب من الآبار كبئر الحنينية أو العيون البحرية. وهناك عدة طرق لبيع الماء:
1 - مياه الجيدان
تعتبر من أوائل طرق بيع الماء حيث كان السقاءون يجلبون المياه في القرب أو الجيدان (جمع جود وهو كيس من الجلد على هيئة خروف أو ماعز) يضعونها على ظهور الحمير والجمال. وكانت المياه تباع على أساس القربة أو الجود الواحد، وقد كانت هناك جيدان مختلفة الأحجام، وكان من المناظر المألوفة منظر الإبل والجمال وهي تحمل عشرات من القرب المملوءة بالماء، وهي في طريقها إلى المنامة.
2 - عربة يجرها حمار
نوع آخر من بائعي الماء وهو السقاء الذي يملأ برميل كبير من الماء ويضعه في عربة يجرها حمار.
3 - الكندر
بعد أن قامت الحكومة بحفر بعض الآبار الارتوازية ظهرت طائفة أخرى من السقائين، مهمتها إيصال المياه من هذه الآبار إلى المنازل، وكان يطلق على هؤلاء الباعة اسم كندر، حيث يقوم السقاء بتثبيت عصا غليظة على كتفه ويمسك بها من الوسط ويضع في طرفيها برميلين معدنيين مملوءين بالماء. وتعرف هذه البراميل بالعامية باسم «بيِّب» والجمع «بِيابة». ومن التسميات العربية للكندر هي « البَيَّاب» فقد جاء في «تاج العروس»:
«البَيَّابُ هو السَّاقِي الذي يَطُوفُ عليهم بالمَاءِ كّذَا يُسمِّيه أَهلُ البصرةِ في أَسْوَاقِهِمْ، نقله الصاغانيّ في( ب و ب)، ثم ضَرَبَ عليه بالقَلَم وكَأَنَّه لم يَرْتَضِهِ».
تأمل الشبه بين كلمة « بيِّب» الصفيحة التي ينقل فيها الماء و«البياب» ناقل الماء.
كان السقاؤون يتخذون لهم مراكز وأسواقا معينة أشهرها في المنامة سوق الحنينية القديم وكان يقع بشارع «المتنبي» حاليا بمحاذاة سوق التجار في الثلاثينيات ولم يكن يبعد كثيرا عن البحر، ثم انتقل هذا السوق إلى مقره الأخير بمحاذاة سوق الحدادين حيث استبدلت الجمال بالحمير في نقل المياه إلى المنازل كما استبدلت القرب أو الجيدان بالبراميل المعدنية، وقد استمرت هذه السوق حتى أواخر الخمسينيات حيث اندثر تماما ولم يعد له أي وجود وذلك بعد أن قامت الحكومة بمد أنابيب المياه إلى البيوت في الخمسينيات، وقد بدأت بعدها مهنة أخرى شبيهة وهي بيع المياه المقطرة «البيلر» إلى البيوت والتي كانت تنقل في سيارات كبيرة.
كما أسلفنا لم تكن الآبار الارتوازية بالجديد على شعب البحرين فقد عرفها منذ أمد بعيد ولكن تلك الآبار لم تكن عميقة وكان يكفي الحبل والدلو (الزاجرة) لإخراج الماء منها، ومع استنزاف المياه الجوفية الذي أدى لانخفاض الضغط اللازم لرفع الماء من الخزانات الجوفية لسطح الأرض وعليه كان من الضروري استخدام أدوات حديثة. وقد بدأ التفكير في حفر الآبار الارتوازية العميقة في البحرين منذ بداية العشرينيات من القرن الماضي، وأول من فكر بجدية في ذلك بعض أفراد الإرسالية الأميركية الذين عانوا من جودة المياه في البحرين، تسرد لنا كورنيلا دالنبرنغ Cornelia Dalenberg في مذكراتها (مذكرات شريفة الأميركانية) مشكلتهم مع الماء حيث كانوا يغلون الماء قبل شربه وبذلك أصبحوا يشربون الشاي بصورة كبيرة، حتى فكر أحد القسيسين وهو القس «بيننغ» في حفر بئر عميقة، وكانت أول محاولاتهم لحفر بئر في الساحة التابعة لمستشفى الإرسالية الأميركية، وكان هذا البئر قليل العمق نسبيا وقد كان يشبه الآبار الطبيعية المنتشرة آنذاك في البحرين. إلا أن القسّ «بيننغ» أصر على المحاولة من جديد إلا أنه هذه المرة حفر بئرا أعمق وقام بطلب مضخة تعمل على الهواء (طاحونة هواء) من أميركا، وقد وصلت الطاحونة من أميركا مجزأة إلى أكثر من 100 قطعة وتم تركيبها. ولم تمضِ فترة طويلة حتى سارع كبار التجار العرب يطلبون فيها طواحين هوائية من القس «بيننغ» الذي سارع لمساعدتهم في نصب طواحينهم الوائية وشيئا فشيئا كثرت هذه الطواحين وأصبحت منظرا مألوفا في سماء البحرين.
في العام 1924م من القرن المنصرم حصلت الشركة البريطانية Eastern and General Sand Kit Company على تصريح لحفر آبار أرتوازية في البحرين وقد قام ممثلها النيوزيلاندي الرائد «فرانك هولمز» بحفر العديد من الآبار الارتوازية في عرض الجزيرة، كما كانت أثناء ذلك تقوم بتحليل الرمال لتتبين من إمكانية وجود النفط في الأرض. وقد عمل هولمز على حفر العديد من الآبار الارتوازية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. الجدير بالذكر هنا أن هولمز تمكن من الحصول في العام 1925 على امتياز التنقيب على النفط في البحرين لمدة عامين إلا أن الشركة الذي يمثلها لا تمتلك الإمكانيات للحفر، وفي نهاية العام 1927 قام هولمز ببيع الامتياز على شركة كاليفورنيا للنفط (SOCAL) التي قامت بإنشاء شركة أخرى مساندة لها هي شركة نفط البحرين (BAPCO).
وقد تتابعت بعد ذلك عمليات حفر الآبار في القرى وقد تم توصيل حنفيات في تلك الآبار، وقد قام عددا من الأهالي بتوصيل الماء من تلك الآبار لمنازلهم. بعد فترة زمنية تم استبدال الحنفيات بخزانات المياه التي انتشرت في أرجاء البحرين ثم بدأت إعداد الخزانات تتقلص شيئا فشيئا ليكون هناك أشبه ما يكون بالخزانات المركزية.
تحدثنا في فصل سابق عن العيون البحرية وغزارة مياهها العذب الذي ينبع من الأرض ويهدر في مياه البحر ولعل هذه الغزارة في مياه العيون وفيضانها في البحر، والحاجة إليها في موقع آخر يفتقر إلى المياه على رغم خصوبة أرضه، هو ما دفع بالإنسان البحريني قديما إلى التفكير في الاستفادة من هذه المياه العذبة بدل هدرها في البحر أو زيادتها الضارة أحيانا أخرى، لقد كان الإنسان القديم في البحرين أكثر حرصا على مياه العيون فنظم استخدامها منذ القدم ومن منطلق الحرص على هذا الإرث المهم وضع قانون الري الذي ناقشناه سابقا حيث جاءت بعض مواد ذلك القانون لتعالج أمور توزيع كلفة صيانة وإصلاح القنوات والعيون على الملاكين والمستفيدين منها ووجوب المحافظة عليها من أي ضرر، لتعكس اهتمام المستفيدين والحكام بعيون البحرين وقنواتها. إلا أن العيون البحرية لم يستفد منها بالقدر المطلوب وقد أكد كل من نيوجينت وتوماس في كتابهما عن البحرين (Nugent and Thomas 1985) على أهمية هذه العيون وركزا على دراسات الجدوى وملايين الدولارات التي ستوفر من جراء استخدامها مقارنة بطرق تحلية مياه البحر ناهييك عن توفير ملايين من جالونات الماء التي تهدر في الماء، وقد أعتبر الكاتبان هذه العيون بمثابة مصدر الماء المستقبلي للبحرين.
غير أنه ومنذ مطلع الثلاثينيات من هذا القرن، وإثر اكتشاف النفط في البحرين وما صاحب ذلك من تغيرات اقتصادية واجتماعية أدت إلى توسع عمراني وتزايد مطرد في عدد السكان ومستوى المعيشة، حدث ارتفع في معدلات الطلب على الماء، وأصبح حفر الآبار الارتوازية ضرورة لابد منها وبزيادة عدد الآبار زادت الكميات المسحوبة من المياه الجوفية وتجاوزت معدلات التصريف الطبيعي للخزان، ما أدى إلى استنزاف خزان الدمام الجوفي في البحرين، مسببا انخفاضا حادا في مستوياته المائية رافقه تدهور في نوعية مياهه، الأمر الذي أثر بشكل مباشر على تدفق المياه في العيون الطبيعية، فتدهورت مياه جميع العيون تدهورا كبيرا تمثل في ضعف تدفقها بل جف العديد منها، وإن استمر فهو قليل جدا، كذلك ازدادت نسبة ملوحة مياهها، مما انعكس على معدل تدفق هذه المياه عبر القنوات التحت أرضية التي تدهورت أيضا.
وفي هذا السياق يتطرق بلغريف إلى هذا الموضوع فيذكر «وفي العشرينيات والثلاثينيات قام الرائد فرانك هولمز بحفر عدة آبار ارتوازية ما غير نظام الري في البحرين جذريا وأدى إلى زيادة مساحة الأرض الزراعية، ولكن في وقت لاحق انخفض مستوى المياه بسبب كثرة الآبار الارتوازية التي حفرت ما أدى إلى جفاف بعض الحدائق في جنوب الجزيرة».
فبعد أن كانت المستويات المائية لخزان الدمام في البحرين العام 1925م تتراوح ما بين متر واحد إلى أربعة أمتار فوق سطح البحر في المناطق الشرقية والشمالية الشرقية من جزيرة البحرين؛ إذ توجد معظم العيون الطبيعية أصبحت هذه المستويات المائية تتراوح ما بين الصفر والمترين فوق مستوى سطح البحر في العام 1992م في المناطق نفسها، الأمر الذي أدى إلى انخفاض المستوى المائي في منطقة العيون ومن ثم قل تدفقها أو توقفت عن التدفق بشكل نهائي.
يتبين مما سبق أن العيون في البحرين مرت بتدهور متسارع، أدى إلى جفافها، وردمها، أو تهديمها، هذا التدهور الذي طرأ عليها ما هو إلا انعكاس واضح لتردي الحالة العامة لمياه خزان الدمام الجوفي الذي تستمد العيون مياهها منه. حيث أدى الاستخدام غير المدروس لمياه خزان الدمام بمعدلات سحب تزيد بمقدار الضعف عن الحد الآمن المقترح من طاقته الإنتاجية خلال السنوات الماضية إلى تدهور عام في كمية ونوعية مياهه، الأمر الذي انعكس على العيون الطبيعية ومعدلات تدفقها، وجريان المياه في قنواتها. ولعل هذا الأمر دفع المستفيدين منها إلى إهمالها وعدم صيانتها ما سارع في تدهورها. ولربما سهولة حفر الآبار وقلة تكلفتها وعدم تطلب صيانتها أسوة بالقنوات قد ساهم في تدهور قنوات الري في البحرين.
كذلك الحال بالنسبة لقنوات الري التحت أرضية فبعد أن جفت العيون التي تزود هذه القنوات بالماء فقد جفت تلك القنوات، يصف لارسن قنوات الري بين قرية صدد وعين صخارة المعروفة فيذكر أن ارتفاع قاع العين التي تغذي القناة هو 4.3 أمتار في حين أن ارتفاع قاعدة مخرج أو نهاية القناة يبلغ 6 أمتار، وهذا يعني أنه في الوقت الذي حفرت فيه هذه القناة فإنه لابد وأن ارتفاع سطح الماء في العين كان أعلى من حد أو عتبة نهايتها. وقد قامت الشركة الاستثمارية (GDC) بإجراء قياسات للقناة في عام 1979م، واستنتجت أنه لابد وأنه قد حدث انخفاض في مستوى الماء لا يقل عن 4 أمتار منذ أن توقف الماء عن الجريان في هذه القناة.
ويصف بيبي تدهور القنوات في البحرين أواسط القرن المنصرم فيذكر «لقد أدى انخفاض مستوى الماء في العيون التي تستمد قنوات الري منها مياهها ولم يعد ينبع منها إلا بقدر البخر السطحي من البرك المتكونة، ويمكن رؤية مدخل القناة في أحد أركان ذلك السياج وقد علت قاعدتها بما لا يزيد عن قدم فوق مستوى الماء ولكنه لم يعد ينساب فيها. وكان واضحا في بعض الأحيان أن الماء منخفض إلى درجة لم يعد بالإمكان فيها أن يعاود انسيابه أبدا، وفي أحيان كان كل المطلوب تنظيف القناة بالاستفادة من المدخنات التي بنيت دون شك لأجل هذا الغرض، فيعاد فتح القناة للري مرة أخرى. ولكن ذلك لم يتم. فعلى نهاية المنحدر الذي يمتد لمسافة ميل واحد وحيث تقوم القرى التي كانت القناة تخدمها، فإن الزراعة - إذا كانت لاتزال قائمة - تتم ممارستها بالاعتماد على حفر تحفر إلى الطبقات التي تحوي الماء وباستعمال المضخات العاملة بالبنزين، يمكن سحب الماء باستهلاك طاقة أقل، وبقدر أدنى من الخطر مقارنة بالحال التي كانت قائمة حين بناء تلك الأنفاق تحت الأرض وصيانتها». وهكذا أصبح حفر بئر أمرا أسهل وأقل كلفة وأضمن للحصول على أكبر كمية من المياه ولا تحتاج إلى جهد كبير لصيانتها.
العدد 2652 - الأربعاء 09 ديسمبر 2009م الموافق 22 ذي الحجة 1430هـ
حورية البحر
انا اري التشابه بين مركبات المناظر الطبيعية