إن قصة المجاعة المألوفة تحدّق ثانية بشرق إفريقيا. ومرة أخرى، تتناول القمة العالمية للأمن الغذائي التي عُقدت قبل أيام أعراض هذه المجاعة، وتغفل أسبابها. فأحد هذه الأسباب هي السنوات المتعاقبة من الأمطار الشحيحة؛ فالقلة القليلة من المزارعين الأفارقة يمتلكون أنظمة للري. ففي إثيوبيا على سبيل المثال، تعتمد 90 في المئة من الزراعة على مياه الأمطار. ولكن كثيرا ما يتعرض المزارعون في أنحاء أخرى من العالم إلى موجات من الجفاف ومع ذلك فهم يتجنبون المجاعة.
قبل عام 1800، كانت المجاعة سببا رئيسا للموت في شتى أرجاء العالم. وكانت معظم الشعوب تعيش من الزراعة. فقد كانوا ينتجون ما يكفيهم من الغذاء وبعض الفائض عندما تكون الظروف ملائمة. أما إذا ما ساءت الأحوال، فيستهلكون ما ادخروه. وفي حال استمرار الأحوال السيئة كانوا يلقونَ حتفهم من الجوع.
لقد تغيّرت هذه الحلقة ببطء في أوروبا الغربية بعدما ازداد التمدن، وأصبح الأفراد يتخصصون في تصنيع بعض البضائع والمتاجرة بها مع أفراد آخرين متخصصين في مجالات أخرى. فازداد الإنتاج وأدت المنافسة إلى الابتكار وتضاعف المخرجات. فارتفع الإنتاج الزراعي بشكل كبير في المحصلة وانخفضت نسب المجاعة.
بيد أن مجاعة أيرلندة منذ العام 1845 إلى 1852، ومجاعة فنلندة منذ العام 1866 وحتى العام 1868 تشكلان استثناء لتلاشي هذه الظاهرة في أوروبا في القرن 19. وتجد مجاعتي فنلندة وأيرلندة سببهما في الحكومات القمعية التي تقيد حقوق الأفراد في امتلاك الأراضي والتجارة. فأدت الزراعات المعيشية المصحوبة بالمرض وسوء الأحوال الجوية إلى مقتل مئات الآلاف من الناس.
منذ عشرينيات القرن الماضي، سجّلت معدلات الوفيات العالمية الناجمة عن المجاعات المرتبطة بالجفاف تراجعا كبيرا بنسبة 99.9 في المئة. ما هو السبب؟ التخصص المتواصل والتجارة هما اللتان ضاعفتا كميات الطعام المنتج للفرد الواحد، ومكّنتا الناس في الأقاليم المعرّضة للجفاف من التنوّيع، ليصبحوا أقل عرضة للمجاعة. ولكن في إفريقيا، حيث تقوم الحكومات بمنع حرية حركة وانتقال البضائع والأفراد، وحيث حقوق ملكية الأرض مقيّدة جدا وغير مؤمنَّة، لم تبقَ للأفراد سوى فرص ضئيلة لكسب قوت يومهم الهزيل. وإثيوبيا هي المثال الأبرز على ذلك: فالحكومة هي المسئول الأول عن تكرار تلك الكوارث.
في العام 1975، قامت الدكتاتورية الاشتراكية بقيادة مينغيستو هايل مريم بتأميم كافة الأراضي الزراعية في إثيوبيا، معرقلة بذاك نظام الملكية المعقد والشائك، فضلا عن تقويض عملية تمليك الأراضي الناشئة. كان الهدف المعلن هو حيازة الأراضي من المالكين الاستغلايين، ومنح الفلاحين حقوق استغلالها، وخلق تعاونيات زراعية لغرض إطعام الشعب، وإبقاء الناس خارج المدن.
ولكن هذه السياسة فشلت فشلا ذريعا. فقد تم استبدال الاستغلال بالقمع. ففي غياب الحوافز لتطوير الأرض، تراجع الناتج تراجعا حادّا، ناهيك عن منع التجارة وتجريمها. وفي ظل مينغيستو، لم يُسمح للمزارعين بتخزين المحاصيل وتوفيرها لأوقات الشدّة، ولا بتوفير المال المتأتي من مبيعاتهم. ولم يُسمح للمقاولين بنقل الغذاء وتوجيهه إلى المناطق التي هي في أمس الحاجة إليه. فقد اعتبرت جميع هذه الممارسات ممارسات رأسمالية مضادة للاشتراكية. وعندما ضرب الجفاف البلاد العام 1983، كما يفعل دوريا، لم يكن بوسِع الملايين من الناس أن يجدوا كفافهم من الطعام، فلقي مئات الآلاف حتفهم جوعا.
فهل تعلّمت حكومة ميليس زيناوي، رئيس وزراء إثيويبيا منذ العام 1991 دروس العام 1983؟
لم تدخل حكومة ميليس تغييرا ملموسا على سياسة مينغيستو في ملكية الحكومة للأراضي. فبموجب دستور العام 1995 ظل للمزارعين الحق في استخدام الأرض دون الحق في امتلاكها. لذا لم يكن بمقدورهم رهن أراضيهم؛ أي أنهم لم يستطيعوا الحصول على قروض معقولة لأجل رفع إنتاجهم من المحاصيل (من خلال البذور الجيدة والأسمدة والمبيدات والري، إلخ)، مما جعل معدلات الفائدة المترتبة على القروض التي حصلوا عليها عالية جدا.
كما أنهم لا يستطيعون بيع أراضيهم والانتقال بحثا عن فرص اقتصادية أفضل. فليس أمام العائلات سوى أن تقسّم الأرض التي يستخدمونها إلى قطع أصغر فأصغر لتوزيعها على البالغين من الأبناء. وهذا بدوره أدى إلى مجموعة من العواقب الوخيمة: توجّب على العائلات استنفاذ مدّخراتها أو بيع ممتلكاتها الأخرى من أجل البقاء؛ كما أن التقسيم المتواصل أدى بصورة مباشرة إلى تدهور البيئة وانخفاض المحاصيل الزراعية مما فاقم مشكلة الجوع. وأخيرا، لم يكن مسموحا للمزارعين الأكفاء بالتملك وإنشاء مزارع أكبر وأكثر إنتاجا.
والأسوأ من ذلك هو الحد المتعمد من الهجرة إلى المدن من طرف الحكومة. لماذا؟ تدّعي الحكومة، من خلال الحد من الهجرة إلى المدن، أنها قلقة بشأن النمو الحضري «الفوضوي». ولكنها تتخوّف في الحقيقة من تزايد الناس في العاصمة أديس أبابا الذي سيصعب عليها عملية إخماد الاحتجاجات وإسكاتها، والتشبث بالسلطة السياسية. فعندما يُمنع الناس من الانتقال إلى المدن، فهم بذلك يُمنعون من السعي وراء الفرص الاقتصادية واستخدام مواهبهم في إقامة المشاريع - وهو الشيء الذي يحتاجه الناس عندما لا يكون بمقدورهم إعالة أنفسهم وعائلاتهم من خلال الزراعة.
إن إجبار الناس على البقاء مجرد مزارعين صغار، وحرمانهم من استغلال الفرص المحتملة في المدن، وإجبارهم على الهجرة، وجعلهم يدمرون الأرض من خلال تقسيمها إلى حصص صغيرة، هي سياسات حكومية سيئة، وليست طقسا سيئا.
كان من الممكن تفادي مأساة العام الحالي عبر سياسات مختلفة، بتحويل ملكية الأرض التي تملكها الحكومة إلى الذين يحرثونها، وإزالة القيود المفروضة على التجارة والتنقل. لقد آن الأوان لتحسين وضع الفقراء لمنع المآسي المستقبلية.
زميل أبحاث أقدم وباحثة قيادية في مشروع إنتربرايس أفريكا في مركز ميركاتوس في جامعة جورج ميسون بأميركا.
والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية
www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2649 - الأحد 06 ديسمبر 2009م الموافق 19 ذي الحجة 1430هـ