كثيرة هي دوافع التطوُّع في بيئاتنا الاجتماعية، وحينما نحتفل باليوم العالمي للتطوع (5 ديسمبر/ كانون الأول في كل عام) فإننا نقف أمام محطة صناعة الإنسان، باعتبار أن العمل التطوعي هو «تخصيص بضعٍ من الوقت الخاص من أجل عمل عام، عبر التزام ليس بالوظيفي، وإنما هو التزام أدبي من أجل خلق تنافس شريف من أجل خدمة أهداف إنسانية ومجتمعية».

إن تنمية الحسّ الاجتماعي والتكيف مع الأفراد هي الوسيلة الأسرع لاكتساب مهارات التواصل والاتصال وإجادة فنّ التعامل مع الآخرين، وهي المهمة التي تنفق عليها المؤسسات الآلاف من الدنانير في تدريب منتسبيها من خلال البرمجة اللغوية العصبية (NLP).

والحديث عن العمل التطوعي لا بدَّ أن يمرَّ من خلال بوابته الأكبر وهي المجتمع المدني، الذي يُصنَّف كقوةٍ خامسة من السلطات الحاكمة للمنظومة الاجتماعية بجانب الحكومة والبرلمان والقضاء والإعلام. ولا يمكن للعمل التطوعي أن يُحْدِثَ تغييرا في أي مجتمع من المجتمعات طالما بقي عفويا وغير مقصود أو منظم، فكثيرا ما تعمل مؤسسات المجتمع المدني بدون رؤية واضحة، أو على الأقل غياب التنسيق فيما بينها، فقد نقرأ في اليوم الواحد خبرا عن إقامة فعاليتين أو ثلاث أو أكثر لجمعيات مختلفة في التخصص ذاته!

ربما يظنُّ البعض بأن العمل التطوعي استنزاف للوقت أو الجهد أو المال وغير ذلك، وفي النهاية لا يوجد من يقدِّر أو يثمِّن القيمة الحقيقة لهذا العمل، ولكن لو نظرنا إلى البُعد الآخر من الصورة لوجدنا أن المتطوع يستثمر في مستقبله، فهو شخص طموح ينظر إلى المستقبل بإيجابية، لأنه يختزن في داخله دافعية تجعله يُقْدِم على العمل بعشق، والسعي نحو مراتب الكمال، فطرق الوصول إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق.

إن الدوافع نحو العمل التطوعي شتى، ولعلَّ أبرزها الدافع الديني الذي يجعل الإنسان المتدين يقوم بتأدية الواجب تجاه مجتمعه أو البيئة التي تحيط به، ويليه الدافع الإنساني الذي يحرِّك ضمائر الشعوب عند تعرُّض بعض الدول للأزمات والكوارث الطبيعية ويشعرها بروح التضامن، فضلا عن دوافع أخرى كالدافع الاجتماعي خصوصا عند المتقاعدين عن العمل الذين قد لا يعرفون كيف يستثمرون وقت الفراغ.

من الواضح بأن أبرز ميادين التطوع هو الميدان الاجتماعي، فقد انبثق العمل التطوعي منذ بداياته من فكرة الأعمال الخيرية، وذلك امتدادا للمشاعر الدينية التي عاشها الإنسان، كمساعدة الفئات المحرومة من الفقراء والمحتاجين وتلبية متطلباتهم الأساسية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وما إلى ذلك، فكانت الأهداف الأولى للمتطوعين في هذا الميدان، إلى جانب الميدان الصحي كمحاولةٍ لتأمين الرعاية الصحية الأوَّلية لهؤلاء المحتاجين، فتطوع الأطباءِ والمسعفين والممرضين للتخفيف من آلام أولئك المرضى.

وضمن هذا السياق يبرز دور كبير لما يُعرف بـ «الدفاع المدني» هذا الجهاز الذي تبرز الحاجة إليه في حالات الطوارئ‏ والمخاطر والأزمات، كما يوجد الميدان التربوي أو التعليمي في تنمية الإنسان والارتقاء بعقله وفكره، وتعليم الأطفال والتلاميذ من ذوي الدخل المحدود أو تعليم الكبار عبر دروس محو الأمية، إلى جانب ميدان مهم وهو العمل البيئي الذي يشكِّل هو الآخر عنوانا آخر للتطوع، وقد بدأ دوره يتعاظم في السنوات الأخيرة نظرا لكثرة تراكم المشاكل البيئية التي تهدِّد العالم بكوارث خطيرة، فالمسئولية المجتمعية كبيرة في هذا الميدان، إذ لا بدَّ من تنشيط حملات التوعية البيئية لتعريف المجتمع بكيفية التقليص من كمية النفايات مثلا، والاهتمام بحملات تنظيف الشواطئ‏ والمحافظة على الثروة الحيوانية والسمكية وغيرها.

إضافة إلى مجال آخر ويتلخَّص في الدفاع عن حق الإنسان في حياةٍ كريمةٍ في أرضه ووطنه وحمايته من كافة أنواع الاستغلال أو الاحتلال التي تهدد أرضه ومستقبله، وهذا المجال نجده في المتطوعين في حركات المقاومة والتحرير في العالم ضمن «حق الشعوب في تقرير مصيرها»، لأن الكثير منهم يترك عمله ودراسته ومستقبله لينضمَّ إلى صفوف المقاتلين للدفاع عن أرضه المحتلة.

إن أهم ركيزة من ركائز نجاح العمل التطوعي الدافعية Motivation»، فعندما طرح العالم الأمريكي أبراهام ماسلو في العام 1943 نظرية سيكولوجية بعنوان «الاحتياجات الإنسانية»، اعتبر الدافعية مؤشرا ومحركا أساسيا لتحقيق احتياجات الإنسان المتعددة، بدءا من قاعدة الهرم والتي تشتمل على الحاجات الفسيولوجية الأساسية لضمان بقاء النوع البشري، وانتهاء بحاجة الفرد إلى تحقيق الذات.

وفي هذا الإطار فإن «العمل التطوعي والحاجة إلى تحقيق الذات» يشكلان ثنائية من الصعب الفصل بينهما، فالإنسان الذي يعمل في المجال التطوعي إنما يسعى لتحقيق ذاته من خلال تحقيق تطلعات الآخرين الذي هو جزء لا يتجزأ عنهم، من خلال استخدام كل قدراته ومواهبه وتحقيق كل إمكاناته الكامنة، وتنميتها إلى أقصى مدى يمكن أن تصل إليه، وهذا التحقيق للذات لا يجب أن يُفسِّر بأي حالٍ من الأحوال على أنه في حدود الحاجة إلى تحقيق أقصى قدرة أو مهارة أو نجاح بالمعنى الشخصي الذاتي المحدود، وإنما من أجل تحقيق رفاهية المجتمع وتمثُّل الغايات العليا مثل البحث عن الحقيقة وبلوغ مراتب الكمال والجمال الإنساني والتأكيد على قيم العدالة.

ثمة تلازم بين بعض النظريات الغربية يستفيد المفكرون الإسلاميون الاستفادة منها، فنظرية «الاحتياجات البشرية» المشار إليها تؤكد على الاحتياجات الضرورية لأي إنسان كالحاجة إلى الطعام والأمن، وتلك حقيقة يؤكد عليها القرآن الكريم «الذي أطْعَمَهُمْ مِنْ جُوْعٍ وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» سورة قريش/ الآية 4، وقوله تعالى على لسان إبراهيم (ع) «ربِّ اجعَلْ هذا بلدا آمِنا، وارزُقْ أهلَه مِنَ الثَّمَرَاتِ» سورة البقرة/ الآية 126، بل وحتى النظريات التي تمَّ رفضها على أساس أنها تتعارض مع الرؤية الإسلامية لمسألة خلق الإنسان، كما هو الحال في نظرية النشوء والارتقاء لدارون، فإننا نرى مفكرين إسلاميين من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده يقفون عند مفهوم «البقاء للأصلح» والذي يُعدُّ مبدأ قرآنيا «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ» سورة الرعد/ الآية 17.

قال علي (ع): «لَوْ رأيتُمُ الإحسانَ شخصا، لرأيتُمُوهُ شكلا جميلا يفوقُ العالمين».