تحفظ أربعة وزراء واعتراض آخر على بند «استراتيجية الدفاع» و «حصرية السلاح» و «دور المقاومة» الذي ورد في بيان الحكومة اللبنانية الجديدة أثار الغبار بشأن ملابسات العلاقة بين الدولة والمقاومة. فالبيان الذي أخذ فترة زمنية من الجدل قبل إقراره رسميا وإحالته إلى المجلس النيابي لمناقشته في الأسبوع الجاري أكد مجددا وجود أزمة بنيوية تعطل إمكانات التفاهم على تحديد الجهة المكلفة للقيام بمهمة الدفاع عن لبنان في حال تعرض لعدوان إسرائيلي في المستقبل.
الاختلاف الظاهر على تلك الفقرة لا يعكس بالضرورة حقيقة الموضوع. فالمسألة لابد من رؤيتها من جوانب متعاكسة لأنها في المضمون تتجاوز فعليا بند المقاومة باتجاه قراءة جدلية العلاقة بين الدولة والطائفة.
المشكلة كما يبدو ليست مع المقاومة بقدر ما هي تتعلق بالطائفة والتقسيم الوظائفي للطوائف في بلد تتكاثر على ساحته المكشوفة والمفتوحة العصبيات المذهبية والمناطقية. التحفظ والاعتراض على «استراتيجية الدفاع» يمكن إجمالهما في نقطة مركزية وهي «حصرية السلاح» وهل يحق لطائفة واحدة أن تحمله وتقوم بمهمة وطنية نيابية عن لبنان والدولة والطوائف الأخرى؟
هذا هو السؤال الذي تختلف عليه الأجوبة. هناك فريق يرى أنه لا مانع في المسألة وذلك لاعتبارات جغرافية وسياسية فرضتها ظروف لبنان الإقليمية وتدخل دول الجوار في الشئون المحلية لحسابات خاصة تتجاوز حدود بلاد الأرز وإمكاناتها وقدراتها. هناك فريق يرى أن المسألة مشروطة بالدولة وضعفها وعدم قدرتها الذاتية على تحمل مسئولياتها الوطنية والدفاعية، وبما أن الدولة مشلولة وغير قادرة على القيام بالمهمة تصبح إمكانات نهوض قوى بديلة لتعبئة الفراغ مسألة واردة وغير مستبعدة. هناك فريق يرى بوجود استحالة نظرية تمنع قيام الدولة بمهمات الدفاع باعتبار أن الطرف الآخر (المقاومة) يعطل إمكانات نهوض الدولة حتى لا تأخذ وظيفتها الاستراتيجية وبالتالي تتحول الاستحالة النظرية إلى مشكلة واقعية ويصبح السلاح معضلة سياسية تتأسس في ضوء تفاعلاتها أزمة حكم لا يمكن السيطرة عليها.
التحفظ على بند «المقاومة» إذا يتجاوز في جوهره مسألة الدفاع واستراتيجية الدولة في حماية الحدود والتصدي للعدوان لأنه يذهب باتجاه آخر يتصل مباشرة بالصيغة اللبنانية وتركيبة نظام المحاصصة في بلاد الأرز. فالمشكلة في عمقها طائفية ولا يمكن اختصارها بالسياسة أو اختزالها بمفهوم ايديولوجي يتعلق بمدى قدرة لبنان (الدولة) الانخراط في الإطار الإقليمي للصراع العربي - الإسرائيلي.
الاعتراض الذي سجله أحد الوزراء إلى جانب تحفظ أربعة وزراء يشكل حجر زاوية في تعامل الطوائف مع مسألة المقاومة وحصرية السلاح واستراتيجية الدفاع. فهذا البلد المركب كيماويا من 17 طائفة عطل إمكانات تقدم دولته وتطورها سياسيا حتى تصل إلى درجة من التماسك الدستوري يسمح القيام بوظائفها المتنوعة ومنها الدفاع عن الكيان والوطن وحماية الحدود من العبث الأمني والاختراق الجوي والميداني.
ضعف الدولة في لبنان شكل تقليديا تلك الذريعة الايديولوجية لتبرير قوة الطائفة (الطوائف). والضعف التاريخي المتمثل في طبيعة نشوء الدولة في بلاد الأرز أعطى تلك المساحة للطوائف حتى تعتمد على قدراتها الذاتية وتقوم بممارسة مهماتها الخاصة أو تلك الوظائف العامة ومنها الدفاع عن نفسها ومصالحها وحقوقها في ظل غياب البدائل. وهذا الأمر يشكل عموما ذاك المشترك الوطني لمختلف الطوائف لأنه أعطى تلك الفرصة لكل الجماعات الأهلية أن تقوم بوظائفها الخاصة من جانب أو بمهماتها العامة من جانب.
هناك طوائف كبيرة اشتهرت بالتجارة ونجحت في السيطرة على المرافق العامة والوكالات التجارية للشركات الأجنبية. وهناك طوائف صغيرة امتازت بالقدرة على إدارة شئون السياحة والخدمات المصرفية. وهناك طوائف طارئة احتلت مكانة خاصة في السيطرة على قطاعات المهن والحرف وإنتاج تقنيات تتصل بالصناعات التحويلية. وهناك طوائف طرفية نجحت في التقدم على المستويات العلمية والثقافية واللغوية ما أعطاها قدرة على التفوق والتحكم بالنقابات والجمعيات والهيئات والأحزاب والجامعات والصحافة.
شكل هذا التخصص الطائفي للمهمات والوظائف مجموعات نخبوية لعبت دورها في تنمية قدراتها الذاتية والتوجه نحو إدارات الدولة وشبكاتها العاملة في القطاع العام (الوزارات) ما ساهم لاحقا في تكوين فروقات طبقية بين الطوائف والمناطق. وبحكم هذا التقسيم الوظائفي لمهمات الطوائف أصبحت هناك طبقة من الطوائف «الفقيرة» و «المهمشة» و «المغمورة» تتحرك على أطراف الكيان وطبقة من الطوائف «الغنية» و «المرفهة» و «المشهورة» تتحرك في دائرة مركز الكيان.
أدى هذا التقسيم الاجتماعي في الوظائف العامة والمهمات الخاصة إلى تأسيس التمييز بين الطوائف اللبنانية، وباتت هناك مجموعات أهلية مغبونة ومنزوية ومحرومة من التمتع بتلك الامتيازات والإنجازات التي احتكرت فوائدها مجموعات أخرى استفادت من توزيع الموازنات والثروة على المحافظات والأقضية.
مسألة الحرمان شكلت نقطة ايديولوجية لانطلاق حركة الإمام موسى الصدر في ستينات القرن الماضي. فالإمام المغيب التقط تلك اللحظة التاريخية المفارقة وأسس في ضوء تفاعلاتها حركة «المحرومين اللبنانيين» وهي حركة شهدت نموا شعبيا تجاوز كل إطارات الأحزاب العلمانية والاشتراكية واليسارية لأنها تعاملت واقعيا مع أزمة نظام أخذ يتآكل من الداخل.
لم يخاطب الإمام الصدر فئة لبنانية بعينها إلاّ أن واقع بلاد الأرز الطائفي أدى إلى تحريف مسألة الحرمان وحصرها في إطارات مذهبية ومناطقية الأمر الذي تشكلت في دائرتها حركة «أمل» ودفعها للنمو السياسي ضمن التوازنات اللبنانية وتخصصات الطوائف. وساهم هذا الأمر في تطور شرائح نخبوية من الشيعة (مهندسون، محامون، أطباء، خبراء، اقتصاديون، أكاديميون) وشجع على توليد قوة ذاتية لعبت دورها السريع في نقل الطائفة من الهامش (الأطراف) إلى المركز.
هذا التحول الجيوبولتيكي - الديموغرافي في تركيبة التوازن اللبنانية ونظام المحاصصة كان من الصعب أن يمر بسهولة ومن دون زعزعة الصيغة التقليدية لوظائف الطوائف ومهماتها. فالتطور المذكور جاء في إطار متغيرات إقليمية (الثورة الإسلامية في إيران) واعتداءات إسرائيلية دائمة ومتكررة على الجنوب اللبناني ما أعطى تلك المساحة الزمنية لنمو مقاومة محلية خارج إطارات دولة غائبة بسبب اندلاع الحروب الأهلية في مختلف ساحات بلاد الأرز.
الآن وبعد أكثر من 30 عاما على غياب الإمام موسى الصدر تشكلت هيئة مختلفة عن صورة لبنان السابقة وباتت المسألة تتطلب فعلا قراءة ذكية للتفاعلات التي تشهدها دولة الأرز والمهمات والوظائف المتغيرة التي أخذت تقوم بها الطوائف. والاعتراض الذي أبداه الوزير المعطوف على تحفظ أربعة وزراء على بند المقاومة يستحق الدراسة من جوانب تتجاوز استراتيجية الدفاع باعتبار أن المسألة لا يمكن عزلها عن الطوائف وموقع الدولة ومهماتها ومسئولياتها ووظائفها في سياق تحولات بنيوية وسكانية وجغرافية وسياسية شهدها لبنان في العقود الأربعة الأخيرة. المسألة أكبر من بيان وزاري يريد مجلس النواب مناقشته لإقراره وهي أيضا تتجاوز حدود علاقة الدولة بالمقاومة... المسألة تتصل بتلك الملابسات التي أنتجتها المتغيرات وأدت إلى إثارة الغبار بشأن معنى اتصال المقاومة بالطائفة وحصرية السلاح ودوره في التأثير على التوازن والمعادلة وصولا إلى إعادة ترتيب الصيغة اللبنانية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2647 - الجمعة 04 ديسمبر 2009م الموافق 17 ذي الحجة 1430هـ