يعتبر كلّ من «ساسي، ورينان، ولين» الأبطال المدشنين الّذين منحوا الاستشراق أسسا علمية وعقلانية، وقد نتج عن ذلك: لا كتابتهم النموذجية وحسب، بل خلق مفردات وأفكار يمكن أنّ تستعمل بصورة لا شخصانية من قبل أي إنسان يرغب في أنّ يصبح مستشرقا. إنّ أسلوب الاستشراق منذ البدء كان يقوم على إعادة التركيب وعلى التكرار.
وتبدو الإشكالية الأساسية في منهج الاستشراق في اختزاله للشرق، واعتباره مجموعة عادات وأفكار وظواهر قد تبدو مثيرة للاشمئزاز والقرف، فيما يتم طمس وتغييب الأبعاد الأساسية للتراث الحضاري للشرق الذي تجلى في إبداعات وابتكارات وإنجازات معرفية وأدبية وفنية وعلمية مهمة أغنت التاريخ البشري في طول مسيرته، والتي لم يكن أقلها نفحات الهدى، وأصوات التوحيد التي تتابعت صادحة من أرض النبوات في الشرق.
ويمكننا معاينة ذلك في ملامح صورة الشرق التي صاغتها ريشة الاستشراق في الوعي الغربي، من خلال التفاصيل التي أوردها «لويس برتران» في كتابه «السراب الشرقي» الذي هو ثمرة رحلته للشرق، الذي أصدره العام (1910م)، إذ يقول: (في الفرن شاهدت ولدا ينام عريانا على الخبز، بينما الذباب يأكل وجهه ويلتصق على حنايا جفونه الوسخة. ثم رأيت حمارا أرعن يسرق رغيفا كان يشكل وسادة للولد، ويفر بعدها على وجه السرعة... الشرق!
إنكم لا تعلمون حقيقته! إنه القذارة، والسرقة، والانحطاط، والاحتيال، والقساوة، والتعصب، والحماقة! نعم، إني أكره الشرق! إني أكره الشرقيين... أكره أولئك المعتمرين بالطرابيش، والمتلهين بالسبحات!
وعممت هذه الآراء للمستشرقين على الصحافة والعقل الشعبي، فالعرب - مثلا - يتصورون راكبي جمال إرهابيين، معقوفي الانوف، شهوانيين، شرهين، تمثل ثروتهم - غير المستحقة - إهانة للحضارت الحقيقية.
وثمة دائما - افتراض متربص بأن المستهلك الغربي على رغم كونه ينتمي إلى أقلية عددية فإنه ذو حق شرعي إما في امتلاك معظم الموارد الطبيعية في العالم، أو في استهلاكها (أو في كليهما). لماذا؟ لأنه بخلاف الشرقي، إنسان حق.
ويذكر أنّ هذا النص يعكس الاتجاه العام لحركة الاستشراق وإن كنا لا نعدم وجود بعض العلماء المنصفين من المستشرقين، الّذين أسهموا في إحياء التراث الشرقي والتعريف العلمي به وإنصاف أهله، كما يتجلى أوضح نموذج لذلك في من اهتدوا إلى الإسلام منهم، ونذروا حياتهم للدعوة إليه، والتعريف بعطائه الحضاري العظيم، مثل: العلامة المرحوم محمّد أسد (ليبولد فايس)، والعشرات من أمثاله.
بيد أنّ الاتجاه العام في حركة الاستشراق اتسم بتكرار استنساخ الصورة التقليدية المزيفة للإسلام والشرق، التي تشكلت إبان الحروب الصليبية في العقل الغربي، وظلت طوال القرون التالية تلهم العقل الاستشراقي، ولم تزل حتّى هذه اللحظة تعمم الموقف السابق للغرب من الإسلام والمسلمين.
بقي أنّ نشير إلى وجود طائفة من المثقفين في ديارنا ممن افتتنوا بالغرب، فحاولوا تقليده واستنساخ مواقفه في كلّ شيءٍ حتّى في عدوانيته تجاه أبناء جلدتهم وأهليهم، فتبدو لهم حركات المقاومة للاستعمار والتغريب (جائحة أيديولوجية ووباء نفسيا)، وتغدو دعوة الأصالة واستلهام العناصر الحية الفاعلة في التراث (خطاب ارتداد عن العصر).
وهي لا تعدو إلاّ أنّ تكون (انسحابا من التاريخ)، (وانبثاق المعتقدات المهجورة). ونموذجا لـ (الخطاب الهذياني) بحسب تعبيرهم.
لقد انطلق هؤلاء الكتاب من عقدة إزاء مجتمعهم وعقيدتهم، فبات كلّ ما هو آت من الغرب مقدسا لديهم، وكل موروث حضاري وعقائدي (ظلامية)، و(جائحة ايديولوجية)، و(هذيانا) في نظرهم.
وتجاوز بعضهم كلّ الحدود في موقفه، فأضحى لديه النقد العلمي للاستشراق الذي أنجزه الباحث الفلسطيني المغترب «إدوارد سعيد» - مثلا - ليس إلاّ (استشراقا معكوسا)، أو (الإيحاء الصريح بأن إدوراد سعيد عميل للمخابرات الأميركية)؛ لأنه (يقدم نصائحه إلى صانعي السياسة الأميركية وخبرائهم واختصاصييهم بشأن أفضل الأساليب لتمتين الأسس التي يمكن أنّ تستند إليها التوظيفات الأميركية في الشرق الأوسط، وأفضل الطرق لتحسين شروط علاقة التبعية المذكورة...)، كما يقول صادق جلال العظم الذي تميز من بين كلّ الكتاب المتغربين بخطابه التحريضي العنيف ضد الإسلام والشرق، وبانحيازه السافر في مخاصمة أي محاولة للدفاع عن التراث الشرقي، حتّى لو صدرت عن باحث غير مسلم، وبالعكس، أي: تبنيه الدفاع عن أي عمل عدواني ضد تراث الإسلام ونبيه الكريم - صلى الله عليه وآله -، كما تمثل في كتابه الأخير الذي يدافع فيه عن المرتد سلمان رشدي، ويدعو لحماية أفكاره، ويدين المواقف الناقدة له، ويهزأ بها.
تلك لمحة خاطفة عن جذور الصراع الحضاري بين الغرب والآخر، ارتسمت لنا فيها بعض أبعاد المواجهة الحضارية وامتداداتها بين الإسلام من جهة، والغرب من جهة أخرى، وهي مواجهة بدأت ضارية منذ اغتيال الأندلس، وستتواصل كذلك ما دام الغرب محكوما بالموقف العدواني من الحضارات الأخرى، والحضارة الإسلاميّة بالذات.
ولكن الإسلام - وعلى مدى صراعه مع الغرب - تمترس بعناصر المقاومة الذاتية التاريخية التي يملكها من أسباب عقائدية وثقافية وحضارية ليحطم - دوما - موجات التدمير والإبادة الآتية من الغرب، وفي كلّ مرة تتحرر بعض القدرات الكامنة في المجتمعات الشرقية؛ لتفاجئ الغرب بعوامل جديدة في المقاومة.
إنّ ولادة الاتجاه التقريبي بين المذاهب الإسلاميّة والدعوات المتزايدة إلى التفاهم والتقارب والوحدة تعد مؤشرا واضحا على بروز عوامل مهمة في مقاومة (وعي الغرب) المضاد لحال النهوض بأسلوب أكثر جدية وحيوية. وما الانبعاث الإسلامي في الربع الأخير من القرن العشرين إلاّ أوضح تعبير عن المقاومة الذاتية والحفاظ على الهوية الحضارية في وجه عمليات التشويه والمسخ الحضاري.
إقرأ أيضا لـ "عبدالجبار الرفاعي"العدد 2646 - الخميس 03 ديسمبر 2009م الموافق 16 ذي الحجة 1430هـ