ظهر الناشطون الذين يشجّعون التعايش والحوار والتعليم من أجل حياة مشتركة بين العرب واليهود في «إسرائيل» في أواخر سبعينيات القرن الماضي. واليوم، وبعد مرور ثلاثة عقود، أصبح من المسئولية الأخلاقية لهؤلاء الذين يعملون في هذا المجال، في الميدان أو في البحوث الأكاديمية، أن يقيّموا وبشكل حاسم التوجهات والأساليب التي استُخدِمت عبر السنوات.
كانت هناك خلال العقود الثلاثة الماضية تغييرات هامة في التوجهات النظرية والعملية لمجموعات الحوار اليهودي العربي. تركّزت نشاطات هذه المنظمات في البداية حول حوارات مخطط لها مسبقا وموجهة نحو «التعايش»، وبالذات بين تلاميذ المدارس. حدثت آلاف مواجهات التعايش عبر السنوات، وأصبح من الواضح بعد ذلك لهؤلاء الذين يعملون في المجال، أكاديميين وممارسين على حد سواء، أن هناك تفاوتا بين الأسلوب الذي فهم فيه اليهود والعرب تعبير «التعايش» وهدف هذه المواجهات. كان الفرق الأساسي هو أن العرب أمِلوا أن يغير «التعايش» الواقع وموقعهم في المجتمع، بينما أمِل اليهود أن تحوّل المواجهات من وجهات النظر والمواقف.
تطلّب عمل المنظمات في مجال التعايش موارد مادية وبشرية هائلة، وأصبحت النماذج والأساليب المستخدمة أكثر دقّة وصعوبة مع مرور الزمن. وبذلك انقسم العمل والحوار اليهودي العربي إلى العديد من المجالات والمجالات الفرعية، بما فيها الحوار بين الأديان وتدريس السلام والتعليم من أجل قيم ديمقراطية والبيئة والآداب والفنون ووضع المرأة والاقتصاد والمجتمع وغير ذلك. ومع مرور الزمن أصبحت أهداف هذه النشاطات محددة بوضوح أكبر.
إلا أنه على رغم حقيقة أنه لم يبقَ حجر لم يُقلَب، إلا أن النتيجة، إذا قمنا بقياسها حسب مؤشر السلام والمساواة والعنصرية، هي الفشل الذريع. لم يتمكنوا من تحقيق تغيير ملموس على المدى الطويل، لا في العلاقات اليهودية العربية ولا في موقع العرب داخل دولة «إسرائيل».
تُظهر شروط السلام والمساواة والعنصرية، والتي يجري قياسها سنويا من قبل مؤسسات مهنية محترفة مثل مركز «مساواة» وجمعية سيكوف وغيرها، أن وضع العرب في «إسرائيل» والعلاقات اليهودية العربية شهدت تحولا إلى الأسفل في السنوات الأخيرة، باستثناء الفترة التي كان فيها إسحق رابين رئيسا للوزراء. يجب أن تقرع هذه الحقيقة أجراس الإنذار.
يتجسّد تدهور أوضاع الأقلية العربية في كل من تخصيص الموارد وعلى المستوى الاجتماعي السياسي. نحن نشهد كذلك تمييزا أوسع وأكبر في التشريع، مثل مشروع قانون «الولاء» الأخير (الذي اقترحه حزب أفيغدور ليبرمان)، وقانون الجنسية الذي صدر العام 2003 والذي ينص على عدم إعطاء الفلسطينيين الذين يتزوجون من العرب الإسرائيليين إقامة دائمة. ويشير ذلك، مضافا إليه إجراءات أخرى مثل إلغاء دراسات النكبة من المناهج وتغيير أسماء المدن والقرى على يافطات الطرق إلى العبرية، إلى حقيقة أن الصدع اليهودي العربي آخذ في التعمّق.
ونشهد في مجال مجموعات العمل والحوار اليهودية العربية تطورات مزعجة تتطلب عملا يناسب حالات الطوارئ.
كبداية، انخفض عدد المنظمات التي تعمل في مجال العلاقات اليهودية العربية خلال السنوات الخمس الأخيرة من حوالي 180 إلى حوالي 80 منظمة. وتكرّس تلك المنظمات الباقية جزءا يسيرا فقط من عملها للعلاقات العربية اليهودية. إضافة إلى ذلك فإن فاعلية هذا العمل ووثاقة صلته هما عُرضة للتساؤل. هناك الكثير من النشاطات التي تتطلب موارد واسعة، اقتصادية وبشرية، ولكن لا يوجد لها نتائج ملموسة، حسب آخر دراسات التقييم وانطباعات هؤلاء العاملين في المجال.
وفي ضوء انعدام التأثير على الواقع النزاعي للعلاقات اليهودية العربية، في هذه الأيام على الأقل، يتوجب علينا أن نبحث عن نماذج وأساليب جديدة وراء تلك الموجودة حاليا.
على سبيل المثال، لو قامت المنظمات العربية واليهودية بدمج إمكاناتها من أجل مهمة واضحة المعالم، أمكنها أن تصبح أداة فاعلة لتحسين العلاقات اليهودية العربية وتحسين موقف الأقلية العربية، وهذه حالة مسبقة ضرورية لتحسين العلاقات اليهودية العربية؛ لأنه طالما تشعر الأقلية أنه يُساء معاملتها فإن ذلك سوف ينعكس على علاقتها مع الأغلبية.
ومن الأمثلة على حملات يمكن أن تثبت أنها مجالات مناسبة للعمل المشترك، الدفع باتجاه استيعاب عدد أكبر من الأكاديميين العرب في مؤسسات التعليم العالي ومطالب وزارة التعليم إضافة تدريس السلام وصفوف تشجّع على التعايش المشترك وضم الأقلية الفلسطينية العربية في المناهج المدرسية واستيعاب العرب في دوائر صنع القرار والشركات الحكومية من دون اشتراط استخدامهم في الخدمة الوطنية أو العسكرية وتحسين معاملة المسافرين العرب في المطار وغير ذلك.
ومن الأهداف الرئيسية التي يجب أن نسعى لتحقيقها من خلال هذه النشاطات المشتركة تعميق قيمة السلام وخصوصا داخل المجتمع اليهودي، الذي لم يستوعب بعد هذه القيمة ومازال يخافها. ومن سخريات القدر أن الحرب مألوفة أكثر من السلام، وكما هو معروف لدى الجميع، فإن الخوف من المجهول أعظم من الخوف من المعروف على رغم أن الهدف المنشود هو السلام.
ومن الخطوات الأكثر أهمية باتجاه مساعدة المنظمات في مجال التعايش والتي كان لها أثر أعظم تطوير نماذج وأساليب لنشاطات مشتركة مع هيئات سياسية.
لا أدّعي معرفة جميع الإجابات المتعلقة بتحسين فاعلية المنظمات العاملة في مجال العلاقات اليهودية العربية، ولكن هذه دعوة متواضعة لهؤلاء العاملين في هذا المجال، على المستويين العملي أو النظري، لإجراء إعادة تقييم ضرورية بالتعاون مع مجموعات مؤثرة أخرى في المجتمع المدني.
آمل أن نتمكن من تطبيق أساليب تُقرِّبنا من مجتمع يتمتع بالمساواة والتسامح والتنوّر بصورة أفضل ليعيش بسلام مع العالم، وبالدرجة الأولى مع نفسه.
* ناشط في العديد من منظمات السلام ويشارك في برامج تعليمية تشجع القيم الديمقراطية، وهو من قرية المغار في الجليل ويقيم في القدس، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 2645 - الأربعاء 02 ديسمبر 2009م الموافق 15 ذي الحجة 1430هـ