وهكذا غرقت المؤسسة العسكرية بالشئون المدنية في الوقت الذي كانت بأمس الحاجة إلى التطوير والدعم وإعادة التسليح وهي تقف على حافة المواجهة العسكرية مع «إسرائيل»!
عطفا على ما تقدم لخص الكاتب الأسباب الرئيسية لنكسة 1967 فيما يلي:
1) المؤسسة العسكرية (رأي المخابرات العامة)
- لم تكن القوات المصرية على استعداد لدخول حرب شاملة مع إسرائيل بسبب معارك الاستنزاف في حرب اليمن في السنوات الأربع الأخيرة، كما أن القوات المصرية ليست بالدرجة الكافية والإعداد الجيد والتدريب إضافة إلى تلف وتدمير العديد من المعدات في تلك الحرب (اليمن)، وقد دُفعت هذه القوات إلى سيناء كي تتخذ مواقع دفاعية، وتمت تعبئتها بطرق عشوائية غير منظمة، كما تم استدعاء قوات الاحتياط في وقت قصير لم يمكنها من التعود على مسرح العمليات.
- لم تكن القوات البرية المصرية في مستوى تجهيز القوات الإسرائيلية من ناحية التدريب على القتال الليلي، كذلك كانت القوات الجوية بكل قياداتها، ويشمل ذلك ايضا الطيارين والفنيين كما أن العتاد وتسليح الطائرات لم تكن بحال تسمح بالهجوم أو تلقي الضربة.)
- لم تدرب القوات المسلحة تدريبا كاملا للانتقال بها وتغييرها من قيادات أمن كما كان جاريا العمل بها مند بداية الثورة إلى قيادات عمليات، كما كان القادة الجدد غرباء على الوحدات التي يقودونها، إذ لم يتسنَ لهم الوقت الكافي لخلق جو من الألفة والعلاقة المطلوبة بين القائد وجنوده... رأي المخابرات العامة.
- تخبط القيادات العسكرية بكافة مستوياتها في إصدار الأوامر المناسبة في الوقت المناسب بسبب قطع اتصال القيادات بتشكيلاتها من ناحية أو مع قياداتها العليا من ناحية أخرى. وعليه، كانت الأوامر الصادرة متناقضة مما أدى إلى شيوع جو من الفوضى في صفوف القوات المسلحة.
- تدخل القيادة العامة في تفاصيل المعارك بطريقة جعلت من مقر القيادة العامة في القاهرة أشبه بالسوق مما أحال دون وجود الجو المناسب لإدارة المعركة وإعطاء القرارات الصائبة.
وفي هذا الصدد أضاف الفريق صادق مرتجى أسبابا أخرى للهزيمة:
(لم تكن قيادة القوات المسلحة في أيدي قادة محترفين، وليس لديهم إلمام بالعلوم العسكرية، وليس لديهم خبرة في المستجدات في الأسلحة الحديثة، أضف إلى ذلك أن القوات المسلحة المصرية لم تكن بحال استعداد تسمح لها بدخول حرب أساسا بسبب إنهاك الجيش المصري في حرب اليمن، وكان من الضروري توضيح هذه المسألة للقيادات السياسية قبل الإقدام على هذه المغامرة، ولكن عندما عرض الرئيس عبدالناصر الأمر على القوات المسلحة أجابه المشير بكل ثقة: برقبتى ياريس!؟).
(تراخى رؤوساء قيادات الجيش وعدم أخذهم الأمر على محمل الجد في حرب 1967 بل إن كثيرا من الضباط في مواقع القتال لم يُبلغُوا برفع درجات الاستعداد في يوم 5 يونيو 1967، لذا كانت الخسائر فادحة والأداء في بعض المواقع أسوأ من السوء).
- بالرغم من احتمال الحرب والهجوم يوم 5 يونيو ومعرفة القيادات العسكرية بهذا الأمر كما بيّن ذلك الرئيس عبدالناصر عند اجتماعه بهم. كذلك تأكيد المخابرات للأمر نفسه، كل ذلك لم يمنع المشير ومعه كبار القادة من ركوب طائرة لتفقد القوات المسلحة في سيناء في صبيحة يوم 5 يونيو! ضاربا بعرض الحائط كل احتمالات الهجوم ومعرضا أمنه الشخصي والضباط الذين معه لخطر الموت. والأمر والأدهى أن تنتظره بالمطار معظم القيادات التي تركت مواقعها عندما بدأت الضربة الجوية؟!! حتى فوجئت هذه القيادات بالطائرات الإسرائيلية التي ظنوها بدءا بالطائرات التي تحرس المشير، وما أن تنبهوا إلى الأمر حتى أسرع كل من هؤلاء القادة عائدا إلى موقعه، وقد وصله بعضهم في اليوم التالي؟! وقد شاهد المشير ومن كان معه من الجو الطائرات الإسرائيلية وهي تدك المطارات المصرية ولولا تأخر طائرة المشير عن موعدها صباح ذلك اليوم بـ 20 دقيقة لأسقطتها الطائرات الإسرائيلية المغيرة؟! وقد رجع المشير ولم تجد الطائرة التي تقله سوى مطار القاهرة لتهبط فيه. وكان هذا هو السبب الرئيسى في الهزيمة بل وفي الانهيار السريع الذي حصل للقوات المسلحة (إذ كان عقل الجيش وإرادته غائبين في اللحظة الحاسمة). (ص 156)
(أما الانسحاب فقد أطلق عليه الكاتب (الانسحاب الكارثة) فقد شارك فيه المشير عامر بروح قبلية بحتة بعيدة كل البعد عن الانضباط العسكري، فقد أوعز المشير إلى الفريق فوزي وأنور القاضي وممدوح التهامي لإعداد خطة للانسحاب. وكانت الخطة تقضي بانسحاب القوات إلى خط المضائق على أن تتمسك به (القوات) حتى آخر طلقة وآخر رجل وأن يتم الانسحاب خلال ثلاثة أيام وأربع ليال. وهنا تدخل المشير وغيّر الخطة إلى 12 ساعة حتى يحقق السبق في إعادة الجنود بأسرع وقت إلى أهاليهم سالمين. وبذلك أضاف عبئا جديدا على القيادات والفصائل في مسرح العمليات، كما أن بعض الوحدات لم تبلغ بالانسحاب مما خلق تضاربا شديدا بين الآليات على خطوط العرض، والأخرى على خطوط الطول وآخر بين القوات الذاهبة إلى ميدان المعركة، والأخرى القادمة منها، مما سبب إرباكا وفوضى كبيرين وخصوصا أن بعض الضباط والقادة سمعوا عن أمر الانسحاب من زملائهم فقط، فما كان من الجنود في هذا الوضع المأزوم إلا أن تركوا آلياتهم وأسلحتهم أهدافا سهلة تقتنصها الطائرات الإسرائيلية فقتل من قتل، كما أن الإصابات لم تسعف مما ضاعف الخسائر وبلغ عدد الأسرى قرابة الخمسة آلاف جندي. أما باقي الجنود والذين قدر عددهم بمئة ألف فقد عادوا أدراجهم للوطن مشيا على الأقدام بدون ماء أو طعام فوصل البعض قراهم بعد أسبوع في حالة مزرية).
(في يوم 13 سبتمبر 1967 في الساعة 6:35 مساء أعلن رسميا وفاة المشير عبدالحكيم عامر منتحرا بمادة الأكنوتين، كما ضبطت وريقات معدنية بها حبات الريتلين وثبت من تقرير الطبيب الشرعي أن إحدى هذه الوريقات تكمل الورقة المضبوطة على جثمان المشير وبها مادة الاكنوتين وبموت عبدالحكيم عامر سقطت المؤسسة العسكرية وبدأت المؤسسة السياسية ولأول مرة منذ بداية ثورة يوليو تحكم).
ويبقى السؤال: أين الرئيس جمال عبدالناصر من كل تلك المهازل، وهل هو بمنأى عن أسباب الهزيمة؟ الكل يعرف أن عبدالناصر أخفق في عدة أمور، منها تعيين عبدالحكيم قائدا عاما للقوات المسلحة. وكان بالإمكان معالجة هذه الهفوة وإصلاحها، ولكن الأمر الذي لا يغتفر هو تراخي عبدالناصر في عزل عبدالحكيم بعد أن ثبت سوء أدائه في حرب 1956 وفي الانفصال عن سوريا وبدلا من أن يعزله بعد المساءلة كما أسلفت عاد عبدالناصر واسترضاه ثم رقاه إلى رتبة مشير!!! مما مكنه ورسخ مركزه كقائد للقوات المسلحة، وكان سوء أدائه واستمرارية لا مبالاته من الأسباب الرئيسية في نكسة 1976 فهل كان الجيش المصري حقا بهذا السوء في الأداء؟
أفلم يهزم الرئيس السادات «إسرائيل» في حرب 1973؟ ماذا يعني ذلك؟ إن الحرب تحتاج إلى الخدعة والتسليح الجيد والكفاءة والكثير الكثير من الانضباط، ثم من قاد تلك الحرب؟ أليس معظمهم من الضباط الذين كانوا تحت إمرة عبدالحكيم ورجاله؟ ومنهم اللواء طيار حسني مبارك فلِمَ كانت النتيجة مختلفة؟
أم أن هناك أسبابا أخرى؟ ترك الكاتب مساحة للقراء لاستنتاجها؟ منها على سبيل المثال: لو كانت القوات المسلحة تحت إمرة قائد آخر مثل محمد نجيب هل كان سيسمح بتعبئة الجيش المصري وإقحامه في حرب اليمن لمدة 4 أعوام؟ وبالمثل في إعطاء الضوء الأخضر للمضي قدما في حرب 1967 ألم يؤكد المشير جاهزية الجيش بقوله (برقبتى ياريس) ثم من ناحية ثانية، لم كل هذا السكوت من عبدالناصر على سوء أداء عبدالحكيم لقرابة 12 عاما (1956 - 1967)؟ بل إغراقه بالمزيد من الترقيات حتى بلغت نائب رئيس الجمهورية الأول!؟ وما ترتب على ذلك من تجاوزات المؤسسة العسكرية كما أسلفت. ولكن السؤال هنا: ترى لماذا لم يلمح الكاتب لهذا الأمر؟ ولماذا لم يناقشه؟ ترى هل كان المشير عبدالحكيم عامر كبش الفداء حتى تُوضع على كاهله كل أسباب الهزيمة؟ أنطلب منه ما لا يستطيع وإن أخفق نحمله الوزر كله؟! وهذا يفسر تكرار تقديم المشير لاستقالته في أكثر من مناسبة ثم التراجع عنها. الشيء الوحيد في المشير والذي يشفع له أنه كان قائدا محبوبا وأنه مات فقيرا نظيف اليد.
إننا بما كنا نملك من قوة عام 1967 لو سخر لهذه القوات أناس ذوو كفاءة عالية، وأيدٍ حريصة على غرار حرب 1973 لما بلغت «إسرائيل» ما بلغته من انتصار زائف في حرب 1967، إن «إسرائيل» دولة فقرية تعتمد على عنصر المفاجأة والتفوق الجوي، ولكن هذا التفوق لم يغير من موازين القوى لصالح «إسرائيل» بعد أن دحرتها القوات المصرية عام 1973 وبالمثل قوات حزب الله على الأرض في حرب يوليو/ تموز 2006، لم لا؟ ألم يكن عدد مقاتلي حزب الله في تلك الحرب لا يتعدون بضعة آلاف وبدون غطاء جوي؟ ومع ذلك جعلوا من الدبابات الإسرائيلية أضحوكة؟ ولو كان الحزب يملك مضادات للطائرات الإسرائيلية لكشفت تلك الحرب زيف «إسرائيل» وغيرت من ترتيب سلاحها من أقوى خامس جيش في العالم إلى ربما العاشر أو بعد العشرين.
ألم نكن أمة تحكم المشرق والمغرب في يوم من الأيام؟ فلم الاستخفاف بالقدرات العربية وملازمة جلد الذات؟ هذا ونحن مازلنا نحتفل بانتصارات أكتوبر/ تشرين الأول، ويوليو/ تموز من كل عام؟ أليست هذه الانتصارات مدعاة للفخر؟
إن ما حصل في حرب 1967 هو بتعبير دقيق تحييد شديد للجيش المصري تم بأيدٍ خارجية في ظروف ضبابية غير واضحة المعالم. كان صاحب الخبرة والكفاءة والقرار الصحيح غائبا عن ميدان القتال مما سهل لإسرائيل مهمة الإتيان بالزمان والمكان المناسبين لفرض هذه الحرب غير المتكافئة على مصر.
لقد كان الكتاب بتفاصيله المدهشة مرآة لواقعنا العربي في تلك الحقبة وهو في مجمله دعوة صريحة وجريئة لقراءة تاريخنا القريب بعيدا عن مقص الرقابة حتى نتبيّن مواقع الضعف والخلل داخل البيت العربي. فلن تتقدّم الأمم وتحتفل بانتصاراتها ما لم يكن لديها نخبة من أبنائها المخلصين مهمتهم المتابعة وتصحيح الأخطاء حتى نضمن أن (الرجل المناسب في المكان المناسب) إنه بحق عنوان هذا الكتاب.
العدد 2645 - الأربعاء 02 ديسمبر 2009م الموافق 15 ذي الحجة 1430هـ