العدد 2642 - الأحد 29 نوفمبر 2009م الموافق 12 ذي الحجة 1430هـ

النموذج السويسري... وامتحان المآذن

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الاستفتاء الشعبي الذي جرى أمس في سويسرا بشأن عدم السماح للأقلية المسلمة بإنشاء المآذن في البلاد أعاد التذكير بوجود إشكالية تتعلق بالهوية الأوروبية واحتمال تضاربها الداخلي مع مستجدات تعتبر طارئة على التكوين التاريخي الذي تشكلت منه الاتحادات القومية في القارة.

الدعوة إلى الاستفتاء وجهته هيئات ومنظمات عنصرية ومتطرفة في انغلاقها الثقافي وخوفها على الهوية الخاصة وخصوصيتها الدينية والقومية من الروافد الجديدة التي أخذت تشق خطوطها المستقلة في دائرة الشخصية التاريخية للوحدات السياسية التي تألفت منها الدول المعاصرة في أوروبا.

الدعوة استقبلت بسلبية من المنظمات الديمقراطية وهيئات حقوق الإنسان والأحزاب الليبرالية وغيرها من مؤسسات نقابية واقتصادية. فهذه الأطياف وجدت في الخطوة حركة استفزازية تشوه صورة الاتحاد السويسري الذي اشتهر بالمرونة والانفتاح واحترام الحريات والمعتقدات وعدم التدخل في خصوصيات الآخر وشئونه الذاتية. وبسبب هذه الاعتبارات الإنسانية والخلقية رجحت أن يفشل الاستفتاء في نيل الغالبية إذ أشارت الاستطلاعات إلى أن الدعوة لمنع المسلمين من إنشاء المآذن ستحظى بنسبة لن تتجاوز 37 في المئة من السكان. (جاءت النتيجة مخيبة للتوقعات إذ حصل الاستفتاء على تأييد 57 في المئة).

بغض النظر عن النتيجة النهائية للاستفتاء فإن مجرد طرح المسألة على التصويت الشعبي يؤشر إلى وجود أزمة غير معلنة في التعامل الإنساني مع الآخر والمختلف والوافد. فالأزمة عضوية وهي تتصل بالثقافة والهوية ومدى الاستعداد لتقبل الجديد وإدماجه في إطار المألوف والموروث.

المسألة فعلا بحاجة إلى قراءة لأنها تحصل في بلد يتباهى في نموه الاقتصادي وقدراته الإنتاجية ونموذجه الخاص قياسا بالمحيط الأوروبي. فالاتحاد السويسري يعتبر الأقدم في القارة وسبق تاريخيا الوحدة الفرنسية والبريطانية والألمانية والإيطالية بقرون وعقود وكان له الأولوية في تشكيل نظام يقوم على الوحدات الصغرى (كانتونات) في إطار يحترم الأقليات ويضبطها تحت سقف المصلحة المشتركة والهدف الموحد.

الاتحاد السويسري تميز عن غيره من وحدات أوروبية بأنه اتبع خط التنوع والتعدد في الدائرة الوطنية التي تجمع الأقليات في وحدة مصيرية تقوم على المصلحة. لذلك تميز الاتحاد بالهوية المركبة من ائتلاف كانتونات (أقليات سياسية) تتشكل من لغات وقوميات. وبسبب الصيغة الائتلافية لم يـتأسس الاتحاد على أسس الاندماج القومي أو وحدة العرق أو التجانس في اللغة والتوافق في العادات والتقاليد وإنما نهض على قاعدة الاختلاف في الانتماءات القومية والولاءات الدينية والهوية الثقافية.

قاعدة الاتحاد (26 كانتون) هي الاختلاف في التكوين لا التطابق في الهيئة. فالوحدة توافقية وليست اندماجية، والتنوع يسمح بالتمايز ضمن بيئات متخالفة في روافدها القومية والعرقية والمذهبية واللغوية. فهناك الألماني والفرنسي إلى جانب الإيطالي والنمسوي. وهناك البروتستانتي والكاثوليكي إلى جانب مجموعات أهلية تتبع ثقافات متوارثة عن تقاليد وعادات سابقة على انتشار المسيحية في أوروبا.

هذا التنوع أعطى تلك السمة الخاصة للهوية السويسرية ونجح في ضمان أمنها واستقرارها في محيط أوروبي شهد حالات من التقلبات العنيفة والحروب الدينية والمعارك القومية والانقسامات الايديولوجية التي أدت خلال قرون من التطاحن إلى انهيار إمبراطوريات وتفكك دول ونمو نزاعات عنصرية أوقعت الملايين من الضحايا وهجرت الملايين من أمكنتهم.

سويسرا بفضل نموذجها الخاص حافظت على اتحادها من الانهيار ونجحت في تجنب الحروب وأنقذت تجربتها من الانزلاق نحو المعسكرات المتناحرة بسبب اعتمادها مبدأ «الحياد».

الحياد شكل تقليديا الوجه الآخر لنجاح التجربة السويسرية لأنه أعطى قوة للحماية الذاتية من خلال تعطيل احتمالات نمو ظاهرات التعصب للقومية أو العرق أو الدين. فالألماني السويسري حافظ على حياديته ولم يندفع نحو تأييد قوميته. كذلك الفرنسي أو الايطالي أو النمسوي وكل المجموعات الأهلية والأقليات التي تتشكل منها كانتونات الاتحاد.


فلسفة الحياد

سويسرا لم تعرف الحروب ولم تتدخل في شئون أوروبا انطلاقا من تجربة نموذجية تأسست على قاعدة الاختلاف لا الاندماج ما ساعدها على تخليق فلسفة «الحياد» وعدم الانجرار إلى أهواء قارة لم تعرف الاستقرار إلا بعد معارك أنتجت وحدات قومية متجانسة بالقوة ومن طريق الكسر والقهر.

وساهم هذا الاختلاف التاريخي في تكوين الاتحاد السويسري في فرض احترامه على القارة ما أدى إلى تجنيب البلاد الكوارث بسبب عدم تدخل أوروبا في شئون «الكانتونات» التي تتحدث لغات مختلفة ولكنها متفاهمة على المصلحة. فالمصلحة تعتبر القاعدة المادية للهوية المشتركة التي أنتجت سمعة اقتصادية وأعطت ثقة مطلقة بسرية المصارف ونوعية الإنتاج السويسري وتقنيته.

احترام سويسرا لغيرها من قوى أوروبية محيطة بها وعدم تدخلها في معتقدات الآخر أديا إلى إنتاج كفالة تاريخية لم تسمح لدول القارة بالتدخل في شئون نموذج أعلن «الحياد» وحافظ على مسافة واحدة في التعامل مع الجوار الفرنسي أو الألماني أو الإيطالي أو النمسوي. فالحياد أعطى فرصة لسويسرا بأخذ موقع المشاهد في الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية والحرب الباردة وكل الحروب الإيديولوجية الساخنة.

فلسفة الحياد تأسست على قاعدة الاتحاد السياسي للكانتونات. فالدولة لا تستطيع التدخل لمصلحة ألمانيا لأن الانحياز يمزق الوحدة الائتلافية كذلك لا تستطيع الانحياز لفرنسا أو ايطاليا للسبب نفسه. وبسبب هذا التكوين القائم على التنوع والتعدد نجحت سويسرا في حماية اتحادها من التشرذم ونالت الاحترام من دول الجوار التي ساعدت من جانبها على تحصين نموذج الحياد ومنعه من الانهيار الداخلي.

كل هذه «الحسنات» معرضة الآن لامتحان كبير. فسويسرا المشهورة بتضاريسها الجبلية ومرتفعاتها وبحيراتها وثروتها البشرية وجودة إنتاجها وخصوصية نموذجها السياسي وتجربتها الحيادية وخصوبة ثقافتها تواجه تحدي «المآذن» وما تعنيه أصوات المساجد من إشارات ورمزيات.

تقبل الاتحاد السويسري لهذا الوافد الجديد والسماح له بالدخول إلى النسيج التاريخي الذي تشكل منه النموذج وتأسس على قاعدته منطق الحياد الخلاق في احترام الآخر يعطي دفعة ثقافية ترفع من نسبة حيوية التجربة التي اشتهرت بالتنوع وائتلاف التعدد في إطار المصلحة.

رفض سكان الاتحاد (الكانتونات) قبول الاختلاف ومنع الآخر (الوافد الجديد) من رفد التنوع بعادات مخالفة وخارج المألوف والموروث يشكل خطوة ارتدادية عن تجربة اشتهرت بنموذجها المضاد للوحدات القومية القسرية في أوروبا.

عدم السماح للأقلية المسلمة ببناء المآذن يطرح إشكالية إنسانية تتصل مباشرة بحق الاختلاف واحترام الحقوق ما يؤسس لاحقا مشكلة انسيابية تتجاوز حدود تآلف الديانات. فالمشكلة في حال حصولها سترتد إلى الداخل السويسري لأنها ستطرح إشكالية إعادة تعريف معنى الهوية ومدى استعدادها للتطور مع العصر والتكيف مع المستجدات بما فيها العناصر الجديدة الطارئة أو الوافدة على بيئة استقرت على قاعدة التنوع والتعدد منذ سبعة قرون.

القبول بالآخر المختلف يعني ان النموذج الخاص قابل للحياة ويمتاز بحيوية تعطيه هامش النمو والتقدم. أما رفض الانفتاح على الآخر يعطي إشارة على بدء نكوص التجربة السويسرية وعدم قدرتها على التجديد والتكيف مع المتغيرات. المفاجأة أن سويسرا اختارت الذهاب باتجاه معاكس للزمن... ودقات الساعة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2642 - الأحد 29 نوفمبر 2009م الموافق 12 ذي الحجة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً