العدد 2639 - الخميس 26 نوفمبر 2009م الموافق 09 ذي الحجة 1430هـ

الهروب إلى العلم النظري خوفا من السلطة

محاورة ابن رشد لجمهورية أفلاطون (4)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

على أساس تدرج المدن يشرح ابن رشد أنواع الدساتير عند أفلاطون وهي: الدستور الفاضل، الدستور القائم على المجد والشرف، وحكم القلة وهو قائم على المال والرذيلة، والحكم الجماعي (العامة والجمهور) وحكم الاستبداد (ص 176). ويتوسع قاضي قرطبة في تفصيل أنواع الحكومات استنادا إلى الخصال الخمس (الحكمة، وجودة الفطنة، وحسن الإقناع، وقوة المخيلة، والقدرة على الجهاد في حال اكتمال القوة الجسمانية) ويرى أنها لا تجتمع في شخص لذلك وجب التعاون بين الأول من خلال حكمته، والثاني من خلال جودة فطنته، والثالث من خلال حسن إقناعه، والرابع من خلال قوة مخيلته، والخامس من خلال قدرته على الجهاد. ويدعى هؤلاء الحكام «صفوة الأمراء» ويسمى حكمهم «حكم الأخيار» (ص 177).

وفي حال توافرت خصلتان في رجل واحد «عندها من الممكن أن تؤول الرئاسة إلى حاكمين، كما هي الحال مع الكثيرين من خلفاء المسلمين» (ص 178). ويميز بين الدستور الذي يقوم على «طلب المجد والشرف» والدستور الذي يقوم على «الفضيلة». فالمدينة التي تحكم بالشرف «يكون الشرف هو الغاية لذاته وغير مرتبط بالفضيلة» بينما المدينة التي تحكم بالفضيلة «لا يعتبر الشرف فيها غاية بحد ذاته وإنما مرتبطا بالفضيلة» (ص 179). ويشير ابن رشد على عصره ويقول إنه من الصعب أن نجد مثل هذا النوع من الحكم القائم على المجد والشرف إلا أنه قائم «بيننا غالبا» (ص 182).

بعد أن يذكر أنواع الحكومات ومدنها القائمة على الاستبداد، أو القلة، أو اللذة، أو الضروريات، يأتي إلى ما يسميه «الاجتماع القائم على السياسة الجماعية»، أي حكم الجمهور، إذ تتوافر «في هذه المدينة الجماعية كل الأشياء التي تتوفر في بقية المدن» ولا لأحد على أحد فضل (ص 185). ويرى أن معظم المدن الموجودة في عصره «هي من صنف السياسة الجماعية، وأن الشخص الذي يقودهم بصورة صحيحة هو الذي بيده سلطة القول والفعل» (ص 186).

وبسبب طبيعة الاجتماع القائم في هذه المدينة تنحصر السلطة في الأسر وترتبط السياسة بالبيت الحاكم وهذا يؤدي إلى استخدام المال بغرض إنفاقه على من يقومون بحراستهم أو الحرب من أجلهم الأمر الذي يزيد من الغرامات والمكوس فينقسم الناس إلى صنفين الجمهور (العامة) والسادة وهم يسلبون وينهبون ويكثرون من الاستيلاء فتتحول المدينة إلى الاستبداد «كما يحدث في زماننا وبلادنا» (ص 187).


فساد المدن

يعتبر قاضي قرطبة أن حال الاجتماع في المدينة الجماعية (الجمهورية) مضاد تماما للمدينة المستبدة لأن «الملكية العامة المتوارثة في هذه الأمة» أسرية بسبب البيوت الحاكمة فيها بينما اجتماع أهل «المدن المستبدة» يقوم على القهر لأن غاية المستبد «هي الحصول على مآربه الخاصة، سواء بالرغبة في الغلبة فقط، أو الرغبة في الشرف، أو الرغبة في الثروة، أو الرغبة في اللذة، أو كلها بالجملة» (ص 188). وكل هذه المدن فانية وتضمحل زمنيا بما فيها «المدينة الفاضلة». فالمدن مثلها مثل «طبيعة كل كائن» تصاب بالانحلال مع طول الزمن بسبب تعرضها للفساد. وينشأ الفساد، كما يذهب أفلاطون، عندما تبدأ عملية الاختلاط بين الطبقات فيظهر ما هو «وسط» بين «الدستور الفاضل» وبين ما هو «من أجل امتلاك الممتلكات وجمعها» (ص 195).

ومن طريق الاختلاط الذي يلي النزاع الطبقي، يبدأ تدهور المدينة وانتقال رجالها من طور «الحكم الفاضل» إلى طور «حكم المجد والشرف» وهو أمر «يشبه ما حدث للعرب في أول عهدهم حيث اعتادوا على النزوع إلى الحكم الفاضل، حتى جاء معاوية فتحول حكمهم إلى حكم قائم على المجد والشرف، وهو ما يشبه الحكم القائم الآن في جزيرتنا (الأندلس)» (ص 198). فابن رشد يعتبر أن حكم «المجد والشرف» هو خطوة انحطاطية عن الحكم الفاضل لأن «الشرف» عندهم هو غاية بذاته وليس وسيلة لغاية الفضيلة، ودستور الحكم القائم على الشرف «يكون على الدوام بيد فئة قليلة». ومن طبائع «حكم الشرف» الانحلال السريع أو السقوط «عند حدوث أي طارئ من الخارج أو من الداخل» بسبب تبجيلهم للرجل الغني وتسليمه «قيادة السفينة» فيقودها إلى الهلاك (ص 199). ومن شروره أيضا عجز الحكم عن شن حرب على الإطلاق وإذا شن الحرب يهزم بسرعة و«يمكن أن نرى ذلك في معظم الأمم المسالمة عندما تدخل في حرب مع الأمم الفقيرة» (ص 200).

يحاول قاضي قرطبة تقريب نظريات أفلاطون من الواقع الإسلامي في زمنه فيعطي دولة المرابطين كمثال على تحول المدينة أو انتقال الحكم من دولة فاضلة (الشرع) إلى دول المجد والشرف الممتزج دستورها بالرغبة في المال، وبعدها انحطت ليقوم دستورها على اللذة والترف. وأخيرا انتهى أمرها بتفسخ حكم المرابطين وهلاكه على يد قوة جديدة (دولة الموحدين) التي نهضت على قاعدة «دستور قائم على الشرع» (ص 203). فالدولة عنده تمر بأربعة أطوار: الجيل الأول حين ينهض الجد المؤسس بدولته على قاعدة الفضيلة (الشرع)، ثم الجيل الثاني وهو الأب المتابع الذي يخلط الفضيلة بالمجد والشرف، ثم الجيل الثالث وهو الحفيد الضائع الذي يخلط المجد والرغبة بالمال بالدستور القائم على اللذة والترف. وأخيرا يبدأ التفسخ الذي تقوده فئة تشبه «ذكور النحل» إذ تشارك في أكل العسل من دون أن تساهم في إنتاجه. ويعقبه الانهيار الشامل إما لعوامل داخلية أو بسبب حرب خارجية.


عمر الدولة

يقدر ابن رشد عمر الدولة في مراحلها الأربع نحو 40 سنة ويعطي دولة المرابطين في قرطبة كمثال على ذلك التحول من طور إلى آخر فيذكر على سبيل المثال «الحكم الموجود في مدينتنا قرطبة بعد سنة خمسمئة من الهجرة، حيث إن الحكم كان فيها جماعيا، ولكن بعد أربعين سنة، أي في عام أربعين وخمسمئة، تحول إلى حكم قائم على الاستبداد» (ص 212). ويعطي ظاهرة بن غانية (وهو والي الأندلس من قبل المرابطين) كمثال على هذا الاستبداد المطلق الذي ظهر بعد أن قاد حملات عسكرية وناجحة ضد الفرنجة. فابن غانية (يحيى بن علي) تولى إمارة قرطبة في 520 هجرية (1126م) بناء على توصية من قاضي قضاتها (جد ابن رشد) وحصلت ضده ثورات مختلفة بعد العام 538 هجرية (1143م) ثم حارب قوات دولة الموحدين إلى أن انهزم نهائيا في 543 هجرية (1148م) وذهب معه حكم المرابطين. ويتهمه ابن رشد بأنه هادن أعداء المدينة الخارجين «عن طريق تصحيح أموره مع البعض وقهر الآخرين على الخضوع له». ويصف كيف أثار الحروب لأهل قرطبة، عندما كان والده قاضي المدينة، للاستحواذ على ما يملكه أهلها «ظانا أنه ما دام يسرق ما يملكون فإنهم لن يكونوا بقادرين على زعزعته؛ لأنهم منشغلون بأنفسهم، ساعون لقوتهم اليومي» (ص 213).

يلمح ابن رشد قليلا إلى سلبيات حكم دولة المرابطين وأقل إلى حكم دولة الموحدين. وعندما يشير إلى عصره (الموحدون) يذكر حسناته مقارنة بسيئات العصر السابق (المرابطون) فهو يكرر اختلاف ظروف ما قبل وما بعد 540 هجرية (1145م) و«لاسيما بين الحكم والوجهاء، بسبب أن الاجتماع القائم على الشرف والمجد الذي نشأوا فيه كان ضعيفا، ولهذا جاءوا بصفات الرجل هذه التي يعرضونها الآن وهو يثابر بينهم ليقيم الفضائل الخيرة، وهو متفوق فيها وفق الشريعة الدينية، وهذا نادر معهم» (ص 226).

حاول القاضي تحاشي الاصطدام مع رجال عصره فتردد بين قول نظريات مثالية في المعرفة والبوح بحقائق عصره. فالخوف من الواقع جعله يميل إلى العلم النظري (التأملي) ويبتعد عن التاريخ كمثال حي على وقائع الحوادث وحقائق البشر. وظن أن الهرب من الواقع إلى النظرية المجردة يبعده عن شر الحكم في عهده ويعطي فكره قوة برهانية تخترق طبقات الزمن. إلا أن حساباته لم تنطبق على الواقع، إذ أدى تشدده النظري وأحيانا تطرفه، في عزل مقولاته عن الصناعات العملية وأحدثت ثغرة في منظومته المعرفية انتهت إلى إقصاء مشروعه الفلسفي بالكامل وتراجع تأثير أفكاره في الوعي العام. فإصراره على أن العلوم النظرية وجدت من أجل «الخير الأسمى» وليست محكومة بخدمة الآخرين ساعد على نسف كل أفكاره وعزلها عن واقع البشر ومتطلبات حياتهم اليومية والظرفية.


أفلاطون باللغة العربية

- تلخيص السياسة لأفلاطون (محاورة الجمهورية).

- نقله من الإنجليزية إلى العربية حسن مجيد العبيدي، وفاطمة كاظم الذهبي.

- دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى 1998.

- ترجمه إلى العبرية شموئيل بن يهودا، واللاتينية يعقوب بن مانينيسوس الطرطوشي.

- فقدت نسخته العربية الأصلية، وتم نقله إلى الإنجليزية عن الترجمتين العبرية واللاتينية، وصدرت منه طبعتان: الأولى ترجمة أرفن روزنتال (كامبردج 1956) والثانية ترجمة رالف ليرنر (كورنيل 1974).

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2639 - الخميس 26 نوفمبر 2009م الموافق 09 ذي الحجة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً