إن طبيعة الانتخابات البرلمانية في لبنان - للأسف - تكرّس واقع الانقسام بين مكونات الشعب اللبناني، ويؤسس للإقطاعيات السياسية، ويغذي الأنانية الطائفية، وبالتالي يشرعن للكانتونات، كما يساهم في إضعاف اللحمة الوطنية، ويبعده في آخر المطاف عن فكرة المساواة، وفكرة الوطن، وطن الجميع، ولا تمهد البتة لبناء مستقبل واعد يتفيأ في ظله الجميع بعيش مشترك وبأمن وسلام واستقرار، بل نلمس - بالعكس من ذلك - حالة من التنافر والتنابذ والتوجس بين مختلف المكونات الهندسية الاصطناعية الهشة المشكلة جراء هذا النموذج من الانتخابات كأحد الأسباب، فسرعان ما تعصف بتلك المكونات، رياح المنافسة والتكتلات، فتتغير دائرة الأقطاب، ففرقاء اليوم قد يصبحون خصوما لدودين في الغد، فهمّ كل فريق، أو أي قطب، هو الحصول على مزيد من المقاعد البرلمانية، وعلى هذا الأساس تبنى التحالفات، دون أن يكون هناك تمثيل حقيقي أو تكتل يطرح القضايا الاجتماعية، إلا من باب الدعاية الانتخابية، أو النيل بالتالي من الفريق الخصم الآخر المنافس (المتقاعس) برأيه في إدارة شئون الدولة، ومصالح الناس، فهمّ كل فريق كما قلنا حصد أكبر عدد ممكن من المقاعد النيابية، ومن ثمّ التطلع إلى الحقائب الوزارية عند تشكيل الحكومة العتيدة بتعبير اللبنانيين، وحتى إلى التوظيفات في مختلف المجالات، وسائر المؤسسات آخذين بالاعتبار نظام الحصص لكل فريق...
إن الانتخابات في مجال المؤسسات الأخرى كنقابات العمال والمحامين والمعلمين والأطباء وسواها، أكثر نظافة وقبولا من الانتخابات البرلمانية، رغم ما يشوبها من شائبات الواقع اللبناني؛ لأن هؤلاء يدسون أنوفهم في كل شيء، ولا يدعون مؤسسة بحالها، وبأن تعيش حالة من المنافسة الشريفة...
ثمة طرح ضعيف وخجول لا يؤبه له، حتى لا ينظر إليه ولا يناقش فيه - على رغم من أهميته برأينا - يظهر بين فينة وأخرى من قبل بعض المحللين السياسيين في لبنان. يدعو هذا الطرح إلى أن تجري الانتخابات على قاعدة النسبية من حيث النتيجة... ولتوضيح الفكرة نسوق المثال التالي: لو أن قائمتين لطائفة واحدة ما (سنة شيعة مسيحية دروز... إلخ) خاضتا الانتخابات في التنافس على عشرة مقاعد في محلة ما، ولنفترض جدلا أن إحدى القائمتين حصلت على 60 في المئة من الأصوات، والثانية حصلت على 40 في المئة من أصوات المقترعين، فحسب القانون المعمول به في لبنان، فإن الذي حصل على نسبة 60 في المئة يفوز بالمقاعد العشرة جميعها، في حين ان الذي حصل على 40 في المئة يخرج من المنافسة خالي الوفاض خاسرا دون أن يحصل ولو على مقعد واحد يتيم، وهذا برأيي إجحاف وغبن بحق الطرف الخاسر.
أما لو طبق قانون النسبية، لحاز فريق الأكثرية على ستة مقاعد والأقلية على أربعة مقاعد، وهنا تخف وطأة الفارق، وحالة الاستئثار بالسلطة من قبل الأقطاب المتصارعة، وتضعف سطوة الأباطرة؛ لأن الفريق الذي كان يهمّش على الدوام أصبحت له كلمته والتي لا بد أن تسمع وتؤخذ بالحسبان. وهذا الفريق سيتكون من كافة الأطياف والشرائح وكل ما يتميز به لبنان من مسميات وتلوينات، كفسيفساء جميلة، وهو بالتالي سوف يتصدى للقضايا الاجتماعية؛ لأنه لا يأتي لا من خلفية تكتلية أو طائفية، فما رصيده سوى هذا الدعم الجماهيري والصوت الذي اختاره ممثلا عنه، وأولاه الثقة، ولكي لا يخذله في المرة القادمة، وهنا أيضا يبرز دور المستفتين كقوة في خلخلة بنيان الأباطرة، وإضعاف دورهم، ليختفوا بالتالي في غضون عقود قليلة...
البرلمان اللبناني متكون كما هو معلوم ومتفق عليه، من 128 مئة وثمانية وعشرين نائبا، يتقاسمهم بالمناصفة المسلمون والمسيحيون، لكل طرف 64 أربعة وستون نائبا... فعندما تعتمد النسبية في الانتخابات، لا بد أن يظهر فريق جديد قوي، بل ربما من أقوى الفرق منفردة، ولسوف يبرز دورهم في رص اللحمة الوطنية، وفي إضعاف الروح الطائفية والمناطقية، بل أكثر من ذلك فهم لسوف يتصدون للضغوطات الخارجية وتدخلاتها؛ لأنهم مدينون للداخل بالولاء، الداخل الذي اختارهم، وليس الولاء للخارج وفق صفقات ومصالح متبادلة... ورؤى سياسية ربما تتوافق وتنسجم في ظرف، وتتعارض في ظروف أخرى...
إن من يريد من اللبنانيين إنقاذ لبنان، من هذه الحالة، من هذا المأزق، عليه أولا أن يتنازل عن أنانيته فيما إذا كان رئيس كتلة برلمانية، أو زعيم كتلة من طائفة ما، لكن التخلي عن الأنانية بهذا الطرح، هو ضرب من العروض المثالية لا أعتقد بها؛ لأن لا أحد يتنازل عن (حقوقه) التي شرّعها للأسف قانون البلاد، لكن علينا أيضا أن ننوه إلى أن قانون النسبية لن تمد لبنان بصيغ سحرية لتجاوز الحالة الراهنة، لكن يمكن اعتباره مدخلا صحيحا وسليما كإحدى الوصفات في المعالجة.
في لبنان لا دور للأحزاب السياسية، والتي ربما تناضل بنهج سلمي دعائي؛ لأن الاستقطاب الطائفي يحول دون ذلك، فالواقع السياسي يكرس الإقطاعيات السياسية، والزعامات، يقودها أباطرة القرن الواحد والعشرين، ويضعف هذا الواقع السياسي بالتالي الأحزاب والقوى الأخرى، وهنا تتم التحالفات على أساس مصالح كل كتلة أو زعيم، بغض النظر عن مقتضيات المصلحة العامة للبلاد والمواطنين على العموم، ومن هنا علينا أن لا نستهين عندما يطرح بعض القلة قانون النسبية كشكل بديل بما هو سار في قانون الانتخابات البرلمانية في لبنان، ويعود سبب ضعف الدعوة لقانون النسبية إلى سيطرة الزعامات الطائفية، التي تتغذى وتستفيد وتغتني وتعقد الصفقات مع الداخل والخارج لإدامة هذا الواقع، وبالتالي ديمومة سيطرتها وزعامتها، لأنه يدرك جيدا بتغيير هذا الواقع تكون نهاية كل هؤلاء، أو إضعافهم على أقل تقدير، ومن هنا تأتي أهمية الانتخابات على قاعدة النسبية، وبرأيي سوف يكون له تأثيره الأكيد، وربما أتت أكله في غضون العقود القليلة المقبلة في حال السير به وتطبيقه.
رغم تناولنا للنموذج اللبناني في الانتخابات النيابية، والحالة السياسية هناك، لكن يبقى النظام الديمقراطي في لبنان وصور انتخاباته يتقدم على حالة النظم العربية القائمة قاطبة بكثير.
* كاتب وناقد سوري، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2638 - الأربعاء 25 نوفمبر 2009م الموافق 08 ذي الحجة 1430هـ