منذ سقوط غرناطة العام (1492م) واكتشاف أميركا في نفس العام استطاع الغرب الأوروبي أنّ يتجاوز حدوده، ويمتد نحو مناطق نفوذ خارج كيانه الحضاري، مخترقا مجتمعات أخرى لم تزل تعيش حياتها وتواصل تجاربها الزمنية في إطار تاريخها وتراثها الخاص، الذي كان يتقاطع بشكل واضح مع النسق الحضاري لمسار التاريخ الأوروبي.
بيد أنّ هذا الأخير كان يهدف إلى إعادة صوغ بنية تلك المجتمعات بعد تفتيت بنيتها الأولى في ضوء الوعي التسلطي، الذي ظل أسيرا له منذ قرون كما يقول «الفنجستون» - وهو من كبار المرسلين والمكتشفين في سنة (1850 م) - عن الشعوب المستعمرة وعن مهمتهم هنا: (نأتي إليها لكوننا أعضاء في عرق متفوق، وخدما لحكومة ترغب في تنشئة الأطراف الأكثر انحطاطا في العائلة الإنسانية. نحن أصحاب دين مقدس ومسالم، ونستطيع بفضل سلوكنا المحدد ومساعينا الحكيمة الصبور أنّ نصبح رواد السلام لجنس لا يزال هائجا ومسحوقا).
وهكذا يزعم «م. روى» بأن استعمار الجزائر إنّما هو: بسط القانون ومنافع المدنية على السكان الهمجيين، وأقرب أسلوب عقلي لهذا هو أنّ يتم عن طريق الاستعمار المسيحي والمدنية الدينية.
لقد أضحى كلّ ما هو خارج المركز «الغرب» في تصور الإنسان الغربي منطقة قضاء حضاري، وثقافي، ومعرفي؛ ولأجل ذلك لابد أنّ يقوم هذا الإنسان بمهمته التمدينية في الأطراف، بل ينبغي له أنّ يسحق كلّ مظهر للمقاومة يمكن أنّ ينبعث في الأطراف، ويحول دون إنجازه لمهمته، وهذا ما تؤكده مقالة نشرت في إحدى صحف «بوردو» سنة (1846م) بشأن الموقف من الأهالي الوطنيين في الجزائر، والكيفية التي يجب أنّ يعامل بها البدوي الجزائري: (إنّ البدوي هو: الهندي الأحمر في إفريقيا، ويجب تهيئة نفس المصير الذي آل إليه الهندي الأحمر أثناء عملية استعمار الرواد لأميركا).
في عملية استعمار فرنسا للجزائر يجب أنّ يختفي (البدوي) من على وجه الأرض.
كذلك اقترحت (ليكودوران «صدى وهران» الصادرة في 2 مايو/ أيار 1846 م إبادة الجنس العربي من الجزائر ومراكش، وأن هذا العمل إيجابي، والرأفة الإنسانية الحقيقية تتضمن وجوب إبادة الأجناس التي تقف في وجه التقدم).
إنّ المركزية الغربية لم تولد فجأة في عصر الاستعمار وهيمنة الإنسان الأوروبي على العالم الآخر، وإنّما تعود البداية التأسيسية لهذا الموقف الذي تشكل نمط الوعي الغربي نحو الآخر طبقا له إلى الحضارة اليونانية، فمثلا: كان يعتقد الفيلسوف «سقراط» في أثينا القديمة بضرورة قيام الغرب مهمة «تمدينية» للشعوب المتخلفة.
وفي ضوء نمط الوعي هذا توالت الغارات المقدونية، والهيلنسية، والرومانية، حتّى الحروب الصليبية، من أجل صوغ التمدن في الشرق؛ لأن المدنية سمة الإنسان الغربي.
أما الشرق وتراثه الحضاري النبوي العريق فقد جرى تشويه صورته في وعي هذا الإنسان بتحويله إلى عقل إسطوري، وفكر متوحش، وروح سلبية، و... الخ.
وقد بلغ الأمر بالجماعات الأكاديمية والفكرية والدينية في الغرب أنها كانت تتداول في مناظراتها بجد واحتداد واضحين مسألة ما إذا كان غير الأوروبيين والأفارقة على وجه الخصوص قابلين للتمدن أصلا، وقد ساهم في هذه المداولات من قبل: بلومنباخ، ولورنس، ولامارك، وعلى وجه الخصوص جورج كوفيه.
ولم يتوقف هذا التنظير الذي تولاه بعض مفكري الغرب عند تكوين وعي زائف بحقيقة الإنتاج الحضاري للمجتمعات غير الأوروبية، بل تعداه إلى خلق موقف عدائي انتقامي إزاء تلك المجتمعات، وبروز نزعة عدوانية تدميرية تجاه معارفها ومنتجاتها وتراثها، إذ أودت هذه النزعة بحياة مجتمعات كثيرة، وأحرقت تراثها، وانتهت إلى إبادتها.
ففي أميركا - مثلا - كانت تعيش أربع حضارات، بلغ مجموع سكانها مئة مليون نسمة، دمرها الأوروبيون خلال قرن واحد، حتّى أنّه لم ينج من الذبح سوى عشرة ملايين، فيما أهلك الغزو (90 في المئة) من أهل البلاد الأصليين، وبذلك بادت حضارة «الآزتيك» في وادي المكسيك، و»الأنكا» في أميركا الجنوبية.
وقد تزامنت معها عمليات تفتيت لمجتمعات إنسانية أخرى في غرب إفريقيا عندما أقدمت إسبانيا وفرنسا وانجلترا وهولندا على تعويض النقص الحاصل في الأيدي العاملة، الذي نشأ عن المجازر البشرية التي تم فيها إعدام (90 في المئة) من مواطني أميركا من الهنود الحمر وتعويضهم بواسطة الأفارقة، إذ جرى استرقاق مئة مليون إفريقي من القارة السوداء، ومن ثم نقلهم إلى البلاد التي ذبح أهلها.
ولم تكن تلك الممارسة هي الأخيرة التي يقوم فيها الإنسان الغربي باسترقاق مباشر لمجتمعات بأسرها، وإنّما تكررت هذه الممارسة بشكل آخر حين أقدمت أوروبا - منضمة لها الولايات المتحدة الأميركية هذه المرة - على استلحقاق أعداد غفيرة من العمال ببلادها، عندما قامت بترحيل أعداد كبيرة من الصينيين واستغلالهم لبناء «بنما» في نهاية القرن التاسع عشر، وهكذا فعلت فرنسا الشيء نفسه في بداية القرن العشرين مع المسلمين، إذ جلبت العمال من البلاد الإسلاميّة في شمال إفريقيا للعمل في مناجمها.
وإذا ما رجعنا خطوة إلى الوراء وحاولنا التعرف على موقف الإنسان الأوروبي من تراث وحضارة المسلمين قبل عدة قرون - تحديدا إبان سقوط الأندلس وتراجع المسلمين فيها أمام مؤامرات وغارات التنصير - فسنجد الموقف الغربي تجاه الإسلام وأهله يناظر موقفه من بقية الحضارات، إذ يتكرر استنساخ رؤيته في نفي الآخر في كلّ حالة مواجهة بينه وبين أية حضارة أخرى، فمثلا: في مرة واحدة يجري إحراق (700) شخص في أشبيلية، و(113) شخصا في أبله. أما في مدينة طليطلة فقد مثل أمام المحكمة (1200) شخص حكم عليهم بالإعدام في جلسة إيمان واحدةٍ، وكان يُطلب إلى الشخص: إمّا الإيمان بالمسيحية وترك الإسلام، أو الموت حرقا، ومن هنا جاءت التسمية بجلسات الإيمان.
كذلك أمر «الكردينال خمنيس» بجمع الكتب العربية الموجودة في غرناطة وأرباضها، والتي بلغت أكثر من مئة ألف مجلدٍ، فوضعت أكداسا في ميدان باب الرملة - أعظم ساحات المدينة - وأضرمت النيران فيها جميعا، وحوت هذه الأكداس على وثائق تاريخية، ومصاحف مزخرفة، وكتب الأحاديث، والآداب، والعلوم، وغيرها. كما اشترك «فرناندو وايسابيلا» بعد تنصير مسلمي الأندلس بإصدار الأمر بأن تؤخذ من هؤلاء المتنصرين كتب الدين والشريعة؛ لكي تحرق في سائر مملكة غرناطة.
وإذا ما تحولنا إلى موقعٍ آخر من جبهات المواجهة بين الإسلام والغرب - وفي العصر ذاته - نرى أساليب ووسائل الإبادة للمسلمين وتراثهم ينقلها الغرب معه أينما ارتحل، وفي أي مكان حل. وتظل الحروب الصليبية وما تركته من صور مأساوية فضيعة أوضح تعبيرٍ عن ما يملأ قلب الإنسان الأوروبي من حقدٍ وكراهية للآخر.
إقرأ أيضا لـ "عبدالجبار الرفاعي"العدد 2632 - الخميس 19 نوفمبر 2009م الموافق 02 ذي الحجة 1430هـ