عرفت البحرين خلال سنوات العقد الماضي ما يمكن أن نصنفه بالنهوض الصناعي في الحياة الثقافية البحرينية، عبّرتْ عنه مجموعة من الشواهد والفعاليات مثل: إعادة ترميم القلاع التاريخية بتقنيات معاصرة في غاية التطور، دون المساس أو تشويه ملامحها الحضارية، وافتتاح مجموعة أخرى من المراكز الثقافية من مستوى بيت إبراهيم العريض، وعمارة عائلة مطر، والمهرجانات الثقافية ربيعا وصيفا. كان ذلك على المستوى الداخلي، أما على الصعيد العالمي، فكانت هناك المشاركة البحرينية الناجحة والمميزة في الفعاليات والمعارض الدولية، آخرها كان معرض التسويق العالمي في العاصمة البريطانية (لندن) في قاعة معارض «إكسل» الشهيرة.
ومن بين أهم إفرازات تلك الجهود كان انعكاسها على هيئة حركة جدل واسعة سادت صفوف قطاعات كبيرة من المواطنين، وعلى وجه الخصوص منها قطاع المثقفين بمختلف تلاوينه، عبّرت في جوهرها عن مناخات فكرية متعارضة يمكن تلخيص أهم مظاهرها في التوجهات الآتية:
1. التفاعل الإيجابي مع ذلك النهوض، معتبرا إياه خطوة صحيحة على طريق صعبة ووعرة، بحاجة إلى الكثير من الجهود المالية والسياسية من أجل التأسيس لبنية ثقافية تحتية راسخة قادرة على مواكبة ذلك النهوض والقيام بأعبائه، وينظر إليها بوصف كونها مبادرة جريئة تبحث للبحرين عن دور ثقافي يمكن أن يضعها في مصاف الأمم الراقية من خلال مساهمتها في مد جسور التفاعل الحضاري بين الثقافات العالمية المتنوعة. هذا الاتجاه الإيجابي لا يحجم عن إبداء الملاحظات الصحيحة، وتوجيه الانتقادات الهادفة التي تثمّن ما تم إنجازه، لكنها لا تكف عن المناداة بتطويره من أجل الحؤول دون مراوحته في نطاق دائرة ضيقة يمكن أن تحد من آفاقه، أو تدخله في نفق الركود القاتل.
2. اللامبالاة المحايدة، الذي لا تقف ضد خطوات تشييد البنية التحتية الثقافية التي تُبنى بخطى ثابتة على أرض البحرين، لكنها تعتبر الثقافة مهمة ثانوية لا تستحق كل هذا المجهود المبذول من أجل تطويرها، وتعده نوعا من الترف الاجتماعي الذي لا يستدعي الارتقاء به إلى الدرجات العليا في سلّم الأوليات، مكتفية بالمراقبة إذ لا يوجد ما يدفعها إلى الانتقال من مقاعد المتفرجين، إلى ساحة المتفاعلين.
3. الموتور غير المسئول الذي لا يكف عن البحث عن هفوة هنا أو زلة هناك، كي يضعها تحت مجهر يعلو عدسته غبار متراكم من مئات السنين إن لم يكن آلافها، من أجل تضخيمها كي يخفي تحت ظلالها كل الإيجابيات ناهيك عن الإنجازات التي تم تحقيقها على طريق تشييد البنية التحتية قي صناعة ثقافية بحرينية. يتغافل هذا الاتجاه عن كل ما هو إيجابي، ويحلو له أن يحاول ليّ حركة التاريخ كي يرجعه قرونا نحو الوراء، متدثرا بكل الأغطية التي تعجز عن ستر عورة مداخله المشوهة المنخورة التي يصعب عليها الصمود أمام أشعة شمس التطور الساطعة.
من الطبيعي أن تطفو على السطح مثل هذه الاتجاهات، فالأعمال الناجحة والإنجازات الملموسة هي وحدها التي تبعث الحياة في المجتمع وتدعو الجميع للانخراط في حركة الجدل التي تخلقها مثل تلك المشروعات العملاقة، وهي، أي تلك الأعمال، لا تستطيع، ولا تريد أيضا، أن تكمم الأفواه أو أن تمارس حظرا، ولو جزئيا، حتى على أولئك الذين يتجنّون على الحقائق ويشوهونها.
واليوم، حيث تزدحم البحرين بالبرامج الثقافية والإعلامية على الصعيدين الداخلي والخارجي، ويشارك فيها القطاعان؛ الخاص من خلال بعض المؤسسات التجارية والمالية المقتنعة بجدوى «الاستثمار في الثقافة»، ووزارة الثقافة والإعلام، التي أخذت على عاتقها تصميم البرامج ووضع الخطط ومتابعة تنفيذها. ربما آن الأوان لإيجاد شيء من التخصص الذي يتلاءم وطبيعة المرحلة ومتطلباتها المتشعبة في كلا القطاعين: الثقافي والإعلامي، كي يتسنى تحقيق النجاحات الأفضل في كليهما.
ولعل الخطوة الأولى على هذا الطريق هو التمييز بين الثقافة عن الإعلام، وعلى وجه التحديد فصل الثقافة في وزارة خاصة بها، ثم التفكير في أفضل صيغة يحتاجها الإعلام الرسمي، الذي استغنت عنه بعض الدول، ومن بينها قطر. ففي عصر العولمة، وفي نطاقها الثقافي، حيث تواجه الدول الصغيرة من مستوى مملكة البحرين تحديات حقيقية من أجل الدفاع عن هويتها الثقافية، والحفاظ على إرثها الحضاري الذي يرفد مشروعاتها الثقافية. إذ لا يمكن لوزارة واحدة ان تتصدى للمسئوليتين، وتحقق النجاحات فيهما. فلقد بات لكل قطاع منهما بنيته التحتية الخاصة به ومهاراته البشرية المختلفة كل منها عن الآخر، وأجهزته ومعداته المتخصصة التي قد تلائم مستلزمات العمل الثقافي، وتخفق في إنجاز المهام الإعلامية.
لذا، ونحن نشهد اليوم في البحرين نموا ملموسا في البنية التحتية التي تؤسس لصناعة ثقافية بحرينية متقدمة، لا يمكننا، وليس من المنطقي التفريط بهذا النمو. وليس هناك من حل جذري لإنقاذ الثقافة أفضل من فصلها عن الإعلام، وتشكيل وزارة خاصة بها تأخذ على عاتقها وضع استراتيجية ثقافية بحرينية تتقيد بالمعايير العالمية المعمول بها في الدول المتقدمة. وإذا كنا نتحدث عن اتجاه العالم نحو المزيد من المتخصص، فليس هناك، في البحرين، وعلى المستوى الثقافي، أحوج من وزارة ثقافة متخصصة، تزيح من على طاولة خططها أي مشروع يبتعد قيد أنملة عن الثقافة، وهمومها، وتفرعاتها البعيدة كل البعد عن الإعلام، الذي هو الآخر بحاجة إلى جهة متخصصة تعالج أموره من الجذور، كي تضعه على الطريق الصحيح.
وفي حال الإصرار على الاستمرار في هذا المزج التقليدي والتمسك بهياكله المحافظة، نكون قد حكمنا على الثقافة في البحرين بالإعدام، وحرمنا الإعلام من فرصة الإنطلاق نحو الأفضل.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2628 - الأحد 15 نوفمبر 2009م الموافق 28 ذي القعدة 1430هـ
معـــــــــــاً ... نحو استقلال فكري ثقافي
من غير محاباة أو مواربة وعدم الخوف من مواجهة النقائص والعيوب ، فهذه المواجهة أفضل – بل أنها شرط أساسي _ للسير في معراج الكمال المنشود فالنهوض هو انتباه لهضم الأفكار وإحكام تنفيذها بخطوات عزم وتصميم للخروج إلى سعة وضياء وأفق رحيب معنا العلم والإرادة لإدارة دولاب الحياة البشرية الاقتصادية يحدوها المنهج الإلهي لنؤكد ذاتنا المتميزة بطمأنينة وجدارة واستحقاق و حتى لا يوجّه لذلك الدولاب اللوم أو الهزء أو النصب أو ينصبّ عليه كل صنوف التهكّم والاضطهاد . كل الشكر للكاتب وللوسط ... نهوض