قبل أسبوع من الآن أعلنت سبع وكالات دولية تابعة تنفيذيا لهيئة الأمم المتحدة بأنها بصدد إعداد خطّة طوارئ لإنقاذ بعض مناطق محافظة ميسان الواقعة جنوب العاصمة بغداد نظرا لحاجتها المُلحّة للرعاية الدولية اقتصاديا واجتماعيا.
وتُشير تقارير الأمم المتحدة ضمن هذه الخطّة أن «قضاء الميمونة في ميسان والنواحي المرتبطة به من المناطق التي تحتاج إلى تدخل دولي». وأنها قامت «بتنفيذ سبعة عشر مشروعا سريع الأثر للحد من التدني الحاصل على كافة المستويات». (راجع تصريحات رئيس اللجنة التوجيهية في برنامج الأمم المتحدة للإنقاذ منذر رحيم في هذا المجال).
هنا حديث يُمكن وصله بالتاريخ ثم بالسياسة ثم بالأخلاق. فهذه المحافظة العراقية الشرقيّة النّاقِعَة في نهر دجلة ليست كأيّ محافظة عَرَضِيّة في بلاد الرافدين؛ وهو ما يجعلّ النظر إليها سياسيا وتاريخيا بطريقة أخرى.
يحفر التاريخ لفظة «ميسان» أو «مملكة ميشان» في مراتب الدول التي حَكَمها أزيد من ثلاثة وعشرين مَلِكا، وأنها شكّلت خريطة العراق السياسية والاقتصادية قبل أن يجعلها السّلوقيون تحت كنفهم (311 ق. م. - 247 ق. م.) كما تُشير المصادر.
وفي التدوين التاريخي الأقرب تُشير المعلومات إلى أن أراضيها (ميسان) كانت تمتدّ من الكوت وحتى البصرة (التي كانت جزءا منها) بالإضافة إلى مناطق الأهوار. وهي مناطق رئيسية اليوم في العراق، وخصوصا في أقصى الجنوب.
اليوم تُصنّف هذه المحافظة على أنها من المناطق المنكوبة في العراق رغم ذلك التاريخ الضارب، والموارد الطبيعية الفوّارة من نفط (ثاني محافظة من حيث الاحتياطي النفطي، ثالث محافظة من حيث الإنتاج) والغاز والزراعة.
هنا يتناسب الحديث عن ميسان والعراق عُموما، مع تجارب الدول المُستَعْمَرَة مع مُحتلّيها، وتوصيف تعامل هؤلاء مع من يَحكمونهم بفِعل القوّة المادية، وكيف أنهم لا يتسّببون في أكثر مما جرى ويجري في البُلدان المُحتلّة من كوارث عادة.
خُذْ مثالا في ذلك ألمانيا بعد الحرب الكونيّة الثانية، واستمع لشهادة أندريا نيترشايدت.
أسَرَ الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الثانية ثمانية ملايين ألماني. ورحّلت واشنطن ولندن مليون أسير ألماني كانوا لديها لباريس ليبنوا ما هدّمته الجيوش النازية من أحياء فرنسيّة. وأبقى السوفيت الأسرى الألمان لديهم أحدَ عشر عاما في معسكرات قاسية ليقوموا بنفس أعمال البناء في المدن السوفيتية المُهدّمة.
علاوة على ذلك قام سلاح الجو التابع للحلفاء بارتكاب مجزرة رهيبة في منتصف فبراير/ شباط من العام 1945 بمدينة دريسدن، وقتلوا خمسة وثلاثين ألفا من الألمان العُزّل، ثم نَهَبَ الفرنسيون مناجم الفحم الألمانية في الوقت الذي كان البرد في ألمانيا يطحن العظام.
أما بقيّة الحلفاء فقد نَهَبُوا المصانع، ودمّروا اثني عشر ألف كم من سكك الحديد الألمانية، واستُجوِب ثلثا سكان ولاية بافاريا الجنوبية، وأقيل تسعون في المائة من موظّفي القضاء، وأقفِلت دور النشر والصحف والمدارس، ودِيْنَت ألمانيا لعشرين دولة طالبت بتعويضات مُجزِيَة.
ما أريد أن أخلص إليه هو أن الحالة السياسية والاقتصادية التي يمرّ بها العراق (ومثاله في ذلك محافظة ميسان المنكوبة) ما هي إلاّ نتيجة طبيعية لممارسات الجيوش الأميركية والبريطانية، وبرامج السّاسة في البيت الأبيض بواشنطن و10 دونغ ستريت في لندن.
لا يُمكن أن يُلام العراقيون (السّاسة منهم) على ما يجري في بلادهم بالجزء الأكبر من اللوم. الجهة التي يجب أن تُحاسَب هي القوى الدولية التي دَخَلَت العراق، وحلّت الدولة والجيش وقوات الأمن وتركت البلد عاريا بلا أسمال، وبحدود مُهملة ومُشرعة.
لا توجد تجارب مدنية محمودة (ومكتوبة) قدّمتها هذه الجيوش تجاه الدول المنهارة لكي نستطيع قراءتها بشكل مختلف في جميع التجارب. حتى في الحروب الأوروبية أو تلك التي جرت على أراضي أميركا اللاتينية، كلّها تحمل الملامح ذاته.
بل إن التاريخ الأوروبي يُحدّثنا أن نزوح مليون ونصف المليون ايرلندي بين عامي 1835 - 1850 بسبب المجاعة والفقر والبُؤس كان فرصة ذهبية للبرجوازية البريطانية والقوات الملكيّة لأن تسوم هؤلاء في شواغل بدايات الثورة الصناعية.
وللعلم فإن المناطق العراقية الجنوبية من البصرة وحتى مناطق الوسط كانت من أليْن المناطق التي عبرتها القوات الغازية، وبأقلّ الخسائر، وبالتالي فإنها لم تُمارس ضد قوات الاحتلال عمليات قتالية تدفع الأخيرة للانتقام منها.
اليوم يعيش العراق «نكسة» أو «نكبة» أو سمّها ما شِئت، على مستوى الأمن والاقتصاد والحالة البيروقراطية المريضة (الفساد). ويجب أن تتحمّل الدول الغربية التي دخلت غمار عملية تغيير النظام السياسي في العراق مسئولية ما جرى ويجري من مأساة وإرهاب.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2626 - الجمعة 13 نوفمبر 2009م الموافق 26 ذي القعدة 1430هـ
هذا واحد منكم
قالها الكاتب :( فإن المناطق العراقية الجنوبية من البصرة وحتى مناطق الوسط كانت من أليْن المناطق التي عبرتها القوات الغازية، وبأقلّ الخسائر، وبالتالي فإنها لم تُمارس ضد قوات الاحتلال عمليات قتالية تدفع الأخيرة للانتقام منها.)يعني هناك كان تواطئ مع المحتل ضد المسلمين.... مثل ما حصل مع التتار أرجوا النشر .
التجارب تكفي
اوافق الكاتب على حديثه فالتجارب في المانيا واليابان لم تبدأ بمابركة مارشال أو الراسمالية الامريكية بل من الشعب الالماني نفسه وهو حال العراق اذا اراد النهوض
غريبه
اليوم مافيه تعليقات من الشباب ماجبت طاري الوطن الام.