قياس كلفة الصراع في الشرق الأوسط ايعتبر مدخلا مهما في فهم سياسة المنطقة، وهذا ما حاول تقرير صدر مؤخرا تحت عنوان جديد Cost of Conflict in The Middle East . هذا التقرير الذي أعدته موسسة Strategic Foresight Group، ومقرها الهند، بالتعاون مع حزب العدالة والتنمية التركي، ووزارة الخارجية السويسرية، ووزارة الخارجية النرويجية، ومؤسسة قطر، يتقصى جذور الصراع في منطقة الشرق الأوسط الممتدة من مصر حتى الخليج العربي، منذ نكبة فلسطين في 1948.
التقرير يشير الى العدد الكبير للقوات الأميركية في هذه المنطقة، اذتحتفظ الولايات المتحدة بما يزيد عن 222 ألفا من العسكريين في منطقة الشرق الأوسط وهو الأعلى في أية منطقة أخرى من العالم بما في ذلك منطقة الناتو، وبما يتجاوز مجموع القوات المسلحة لثمان من أربعة عشر دولة في المنطقة.
من المعروف أن «إسرائيل» هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمتلك أسلحة نووية ووسائل استخدام الأسلحة من طائرات وصواريخ في حين تبدو إيران سائرة في طريق تطوير أسلحة نووية وتمتلك وسائل استخدامها وخصوصا صواريخ بعيدة المدى. من هنا فإن سباق التسلح النووي محصور بإيران و»إسرائيل». أما باقي الدول فإنها متفاوتة في برامجها النووية للأغراض السلمية. وادعت الولايات المتحدة و»إسرائيل» أن سورية تبني مفاعلا نوويا بمساعدة كوريا الشمالية لأهداف عسكرية وقامت «إسرائيل» بتدمير ما تدعي بأنه مفاعل في طور البناء. وسبق لها أن دمرت مفاعل تموز العراقي كما قادت الولايات المتحدة تحالفا دوليا لإحباط البرنامج النووي الإيراني من خلال فرض العقوبات.
تعاني دول المنطقة وبدرجات متفاوتة من شحة في المياه وخصوصا دول مجلس التعاون الخليجي الصحراوية، والتي تعتمد على تحلية المياه بمصاحبة إنتاج الكهرباء اعتمادا على وقود الهايدروكاربون، ولذلك فإن سد احتياجات المستقبل من المياه والكهرباء يجب أن يتوجه لاستخدام الطاقة النووية السلمية. وقد وقعت كل من الإمارات والبحرين اتفاقات مع فرنسا لهذا الغرض.
كما أن التكهنات بتطوير إيران لأسلحة نووية قد يدفع دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى للسير في ذات الطريق.
في ضوء تاريخ طويل من الصراعات، واستمرار عوامل وأسباب الصراع، وفي أجواء عدم الثقة فإن دول المنطقة تتسابق لامتلاك وسائل القتال الجوية بعيدة المدى من صواريخ وطائرات. وباستثناء «إسرائيل» وإيران اللتين تصنعان وتطوران منظومة الصواريخ والطائرات فإن باقي الدول تعتمد على إمداداتها من الدول المصنعة والمصدرة للأسلحة وخصوصا الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا.
على رغم استبعاد نشوب حرب نووية في الشرق الأوسط فإن إمكانية امتلاك دول الشرق الأوسط للأسلحة النووية ولوسائل استخدام هذه الأسلحة وعجز الرقابة والقدرة الدولية عن منع هذه الدول عن امتلاك هذه الأسلحة ووسائل نقلها وغياب الحلول الجذرية لمكامن الصراعات وخصوصا الصراع العربي الإسرائيلي أو الإيراني الإسرائيلي قد يشعل حربا نووية في المستقبل في المنطقة.
سيترتب على هذا السيناريو المرعب خسائر مادية وبشرية هائلة لا تقتصر على البلدان المتحاربة بل ستمتد إلى البلدان المجاورة وحتى البعيدة أخذا بالاعتبار خصائص الأسلحة النووية. كما ستكون آثاره المدمرة بعيدة المدى زمنيا كما ستكون له نتائج كونية في انهيار النظام العالمي الأمني والاقتصادي والقيمي.
في الوقت الذي يتمتع فيه الشرق الأوسط بوفرة الموارد النفطية فإنه يعاني من ندرة المياه - حيث الحروب تلحق الأضرار بكلا الموردين وتلك تجربة حرب الخليج وحرب «إسرائيل» ضد حزب الله في صيف 2006 حيث لحقت بالبيئة أضرار جسيمة. ويلحق الضرر بالصحة العامة والتنوع البيولوجي والنظام الايكولوجي في المنطقة.
ولا يمكن تقدير الأضرار التي تلحق بالبيئة بثمن، وكذلك الصحة العامة. وكما أن أضرار الحروب بالبيئة تفاقم من ظاهرة الاحتباس الحراري العالمية، فإن الاحتباس الحراري بما يترتب عليه من شحة في المياه قد يؤدي إلى الحرب.
وإذا كانت الحروب التي جرت في الفترة ما بين 1948 حتى 2008 ذات أسباب سياسية وأبعاد اجتماعية ودينية واقتصادية، فإن البيئة وخصوصا ندرة المياه قد تكون السبب والضحية لحروب المستقبل وإذا تفحصنا المياه القابلة للتجدد والمتاحة للفرد في الشرق الأوسط فإنها متباينة لكنها متدنية وتتدنى أكثر مستقبلا.
وباستثناء البلدان ذات الأنهار (مصر وسورية والعراق) والماطرة (سورية ولبنان و»إسرائيل» وإيران) والتي تتمتع بمعدل معتدل للمياه المتجددة، فإن باقي الدول الصحراوية أو شبه الصحراوية (بلدان مجلس التعاون والأردن) تعاني من شحة المياه المتجددة وستزداد معاناتها.
ويمكن أن نفصل الأضرار التي تلحق بالبيئة من جراء الحروب في الشرق الأوسط كما يلي:
نقدم حرب الخليج الأولى (احتلال الكويت) 1990-1991 نموذجا لما يمكن أن يترتب على تدمير آبار ومنشآت النفط من آثار بيئية كارثية تدوم آثارها لعقود ترتب على إحراق العراقيين لعشرات من آبار النفط الكويتية وكذلك الأضرار التي لحقت بمنشآت وناقلات النفط (خزانات ومحطات تحويل وشبكة نقل وتصدير) في غمار الحرب، عن تلويث واسع للبيئة الجوية والبرية والبحرية. فقد ظلت آبار النفط مشتعلة لمدة 9 أشهر قبل إخماد نيرانها، وخلال هذه الفترة فقد تسرب لمياه الخليج أو الأرض ما يقارب 15 مليون برميل من النفط الخام و1.5 مليون من 3 من المنتجات النفطية وتكونت بحيرات من النفط الخام (25-60 مليون برميل) وتسببت حرائق النفط بانبعاث ما يقارب 14 مليون طن من الدخان السام في الأجواء وتلوثت سواحل الكويت والسعودية أساسا وباقي دول الخليج بدرجات متفاوتة، ونفقت ملايين الطيور المهاجرة ودمرت الشعب المرجانية وتلوثت المياه السطحية والجوفية، كما لحقت أضرار بليغة بالغطاء النباتي للكويت وجنوب العراق ومنها منطقة الأهواز والحقيقة أنه حتى اليوم فلازالت المنطقة المطلة على الخليج تعاني من الأمراض السرطانية بفعل التلوث الزمني بسبب الحرب.
استخدمت الولايات المتحدة في حربها ضد العراق لتحرير الكويت (حرب الخليج الأولى) وفي حرب الخليج الثانية ضد العراق مئات الآلاف من الذخيرة المحتوية على اليورانيوم المنضب ويلحق اليورانيوم المنضب آثارا خطيرة بالبيئة والبشر والحيوانات لعشرات السنين. وعلينا أن نتصور أنه يتطلب ما بين 4 و5 مليارات دولار لتنظيف 200 هكتار من الأرض الملوثة. وقد كشفت دراسة أميركية سرية أن استخدام اليورانيوم المنضب قد يتسبب في نصف مليون إصابة إضافية بالسرطان خلال عقود.
إضافة إلى ذلك فإن مخلفات الحروب من قنابل عادية وعنقودية لم تنفجر تشكل خطرا داهما على السكان والحيوانات وتحد من النشاط الاقتصادي. وقد تطلب الأمر أكثر من عام لتنظيف مجاري الليطاني في جنوب لبنان من هذه المخلفات ومازال الكثير منها على امتداد الأراضي اللبنانية.
يترتب على الحروب أيضا كما في حرب الخليج وحرب يونيو/ حزيران 2006 إلحاق أضرار بمصادر المياه (النهرية والجوفية) سواء للري أو الصناعة أو الشرب، وشبكات التوزيع والخزانات وكذلك بشبكات التعريف وينعكس ذلك وبالا على صحة المواطنين ومفاقمة لتلوث البيئة.
نظرا لتداخل مصادر المياه في الشرق الأوسط، أي اعتماد جميع بلدانه على مصادر مياه من خارجه كالأنهار ومخزون المياه الجوفية فإن جميع بلدانه تعتمد بدرجات متفاوتة على مياه من خارج حدودها. تعتمد «إسرائيل» بـ 55 في المئة من مياهها على مياه الضفة الغربية ونهر الليطاني وروافده ونهر الأردن وتعتمد كل من سورية 80 في المئة والعراق 53 في المئة على مياه دجلة والفرات اللذين ينبعان في تركيا وتعتمد مصر بنسبة 97 في المئة على مياه النيل الذي ينبع من أعالي إفريقيا، وتعتمد كل من الكويت 100 في المئة والبحرين 97 في المئة وقطر 4 في المئة على المياه الجوفية الآتية من السعودية، ويعتمد الأردن 25 في المئة على مياه اليرموك النابع من سورية ويعتمد قطاع غزة 18 في المئة على المياه الجوفية الممتدة إلى «إسرائيل» ومن مراجعة تاريخ الصراعات في المنطقة، فإن الصراع للسيطرة على منابع وممرات الأنهار في المنطقة التي تغطي شمال «إسرائيل» وجنوب لبنان وسورية وأغوار الأردن، وهو سبب رئيسي للحروب والنزاعات المسلحة بين «إسرائيل» وجيرانها العرب. كما أن استمرار «إسرائيل» باحتلال بحيرة طبرية والجولان والضفة الغربية، يعود إلى كونها خزان المياه لـ «إسرائيل».
ونلحظ هنا أن «إسرائيل» تستنزف مياه الضفة الغربية حيث يتم ضخ أكثر من ضعف( 120 مليون م3 سنويا) بالمعدل الأمن (55 مليون م3 سنويا) لتأمين المحافظة على المخزون المائي ولذا فإنه لا يتوقع أن تتخلى «إسرائيل» عن سيطرتها على بحيرة طبريا والجولان والضفة الغربية وإذا انتقلنا إلى الساحة العراقية الإيرانية، فإن الخلاف على السيادة على شط العرب، الذي يفصل بين البلدين ويصب فيه نهري دجلة والفرات، هو سبب رئيسي للمواجهات بينهما واندلاع الحرب العراقية الإيرانية في 1980 والتي استمرت 7 سنوات. وقد ترتب على هذه الحرب أضرار بيئية جسيمة أحدها تدمير ما يقارب 80 في المئة من بساتين النخيل (14 مليون نخلة تقريبا) وتدمير نظام الأهواز البيئي في الجانبين.
إذا فإنه في ضوء اعتماد دول المنطقة على بعضها البعض لمصادر مياهها وشحة هذه المصادر وتزايد الحاجة إلى المياه فإنه مطلوب التوصل لاتفاقية شاملة لتطوير مصادر المياه الحالية ومصادر جديدة والمحافظة عليها وصيانتها حتى لا تتحول إلى مصدر للتوتر الدائم والحروب المدمرة... وللحديث تتمة.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 2624 - الأربعاء 11 نوفمبر 2009م الموافق 24 ذي القعدة 1430هـ