مضى العام الخامس على رحيل ياسر عرفات. وجاءت الذكرى الخامسة في مرحلة لاتزال فيها القضية الفلسطينية تمر في أطوار من التحولات والانقسامات ما يعطي أهمية خاصة للعودة إلى فلسفة عرفات السياسية التي تأسست لا إراديا من خلال التجربة والممارسة. فالرئيس الفلسطيني الذي قاد حركة التحرر الوطني منذ العام 1969 إلى يوم رحيله في العام 2004 ابتكر منهجية سياسية قامت على نزعة تجريبية تحكمت آليات النضال ومتطلباته ومهماته في إنتاج قوانينها.
عرفات ليس مفكرا ولم يعتمد في حياته على أيديولوجيا ترشد عمله ولم يلتزم بحزب يتخذ من الشعارات أدوات تحليل ولم يلتحق بمدرسة فلسفية يستقي منها أفكاره للإثارة والتحريض أو جمع المريدين. عرفات يختلف عن الكثير من القادة في تكوينه الثقافي وتربيته السياسية وتعامله اليومي مع القضايا. وبسبب شخصيته الخاصة نجح في تأسيس مدرسة مستقلة في التعاطي مع شئون عصره. وهذه المدرسة تكونت بالتجربة الحياتية والنضال اليومي الذي دمج بين المبدأ والحاجة أو بين القضية ومتطلباتها.
مدرسة عرفات السياسية ليست قومية ولا ماركسية ولا إسلامية ولا تمت بصلة إلى كل التنويعات والتفرعات والروافد الحزبية التي عاصرها في الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات. فهذه العقود الأربعة شهدت أوسع حلقات النقاش وتعرفت على تجارب (نماذج) متعارضة في تلاوينها وجذورها من الصين وفيتنام والهند إلى إيران وأوروبا وأميركا وروسيا.
كل هذه الأيديولوجيات تركت تأثيراتها المتفاوتة على العالم العربي والإسلامي وساهمت في توليد شرارات حروب وحركات تحرر وبناء دول على مختلف الأنماط والأنساق في الجزائر وليبيا ومصر والسودان واليمن والعراق وسورية وغيرها من دول قريبة من فلسطين وبعيدة عنها... ولكن عرفات استمر يبحث عن استقلالية أيديولوجية تحصنه من تلك الفعاليات والمؤثرات بذريعة حماية القضية من التبعية والالتحاق والاستغلال.
أيديولوجية عرفات الخاصة تأسست بناء على معطيات القضية. فالهدف الذي رسمه تركز على مسألة مركزية واحدة تنبثق منها كل المهمات التي تجتمع حولها كل الأيديولوجيات. وبما أن فلسطين كانت تشكل تلك الساحة التي تلتقي فيها كل التوجهات والمدارس والأحزاب والأنظمة ارتأى عرفات أن تتحول القضية إلى رمز تجتمع عليه كل القوى المتخاصمة والمتخالفة. لهذا كان عرفات سعوديا في السعودية، ومصريا في مصر، وسوريا في سورية، وإيرانيا في إيران، وعراقيا في العراق، وجزائريا في الجزائر، وتونسيا في تونس... وهكذا.
حتى حين كان يزور الصين أو روسيا أو الدول الاشتراكية المؤيدة لمنظمة التحرير الفلسطينية لم يتردد عرفات في تمييز القضية أيديولوجيا باعتبارها فوق كل المدارس السياسية.
تصرفات عرفات وتحركاته واتصالاته وتصريحاته تعطي صورة عن تعارضاته وتناقضاته. فهو بحكم ظروفه والمحيط الذي يتحكم بالجغرافيا الفلسطينية استنبط فلسفة سياسية خاصة تتناسب مع حاجات القضية ومتطلباتها بغض النظر عن الأيديولوجيات التي كانت تتنافس على كسبه وشدّ الثورة إلى إطارها.
قضى عرفات معظم وقته يكافح لمنع انسياق القضية إلى مكان واحد حتى لا تنحصر في زاوية واحدة وتخسر التأييد من الجهات والزوايا الأخرى. فالظروف أنتجت فلسفة مفتوحة على كل الأيديولوجيات لأن فلسطين بحد ذاتها تشكل في التاريخ حالة استثنائية تتطلب رؤية خاصة تتناسب مع طبيعتها المستقلة عن طموحات المحيط الجغرافي أو الأنظمة السياسية.
هذه الاستقلالية التي بدأت تفقد شعاعها الآن تأسست على معرفة تجريبية وحنكة سياسية وقراءة لكل الشخصيات التي عاصرها. وبحكم هذه البراغماتية (النضال اليومي) توصل عرفات إلى صوغ قناعات عامة تربط الثابت (القضية) بالمتغير (الظروف) وتعتمد على تعارضات لا تتعاكس مع المبدأ. فالهدف الأساسي (الاستراتيجي) تحرير فلسطين. والتحرير ليس أيديولوجيا بل آليات ومراكز قوى وأدوات وقوى بشرية وتكتيكات يومية تتطلب التأقلم والتكيّف والمناورة من دون إخلال بالقضية المبدئية.
فلسفة عرفات السياسية كانت نتاج التجربة. فالنضال اليومي أسس رؤية براغماتية لا تتوقف مليا أمام المصطلحات والمفردات التي تسترشد بها الأيديولوجيات بل تكترث كثيرا للوظائف والحاجات والمتطلبات التي تخدم الهدف المركزي. وبما أن ظروف فلسطين خاصة والنضال من أجل تحريرها مختلف (ثورة خارج أرضها) كان عرفات يحرص على اختراع مفردات مستقلة تؤكد ذاك الاستقلال السياسي المطلوب لضمان وحدة الشعب ومنع تشرذمه على مدارس أيديولوجية تتناحر على الأفكار والبرامج في وقت لاتزال الأرض محتلة والفصائل المسلحة تنشط في مخيمات اللاجئين وخارج معادلة الاحتلال.
بسبب هذه الخصوصية أسس عرفات آليات فلسفية لسياسته اليومية جمعت بين المبدأ العام (العودة) والظروف المحيطة وما تتطلبه الثورة (التحرير) من حاجات تلبي الوظائف المباشرة للشعب (هيئاته وفصائله) مع الحرص على استقلالية القرار الفلسطيني ورفض تسويقه أو بيعه لأي أيديولوجية أو جهة أو أنظمة معينة. وشكلت هذه النزعة الاستقلالية نقطة قوة رسخت التماسك الفلسطيني وفي الآن جذبت الكثير من الأحقاد والخصوم من الجهات التي أرادت احتكار القضية وعزلها عن القوى الأخرى.
البراغماتية ساعدت عرفات كثيرا على إنقاذ القضية من السقوط في لعبة الأنظمة ولكنها أيضا لم تسعفه إلى النهاية وتحديدا حين خرج من لبنان في العام 1982. فالنزوح من بلاد الأرز أفقد عرفات مركز قوة أعطاه تلك المساحة من الاستقلالية التي نسجها خلال تجربته الصعبة والطويلة.
بعد لبنان سيدخل عرفات في طور براغماتي جديد يعتمد على هامش نسبي من حرية الحركة ما أدى إلى حصاره السياسي بعد حرب الخليج الثانية في العام 1991 واضطراره إلى توقيع اتفاقات أوسلو والقبول بالعودة قبل ضمان تأسيس الدولة.
العودة إلى فلسطين كانت الهدف وهي كانت مشروطة إما بالتحرير أو بالتفاوض. وبما أن الظروف (الجغرافيا السياسية) أقفلت الطريق على الوسيلة الأولى كان لابد أن يتقبل عرفات شروط الوسيلة الثانية. وهكذا جاءت العودة لتصب في سياق فكرة استعادة فلسطين في إطار التفاوض من دون إسقاط حق المقاومة في حال لم تتجاوب الظروف مع الحاجات والمتطلبات.
براغماتية عرفات ساعدته على إعادة ترتيب مفردات الحلم الفلسطيني. فالحلم الذي بدأ في الستينات بالتحرير أولا والعودة ثانيا انتهى في التسعينات بالعودة أولا والتحرير ثانيا.
هدف عرفات المبدئي تركز في سنواته الأخيرة على حلم الدولة عاصمتها القدس. وهذا الهدف كان يتطلب بدوره براغماتية سياسية اعتمدت منظومة «لعم» في التعامل اليومي مع الضغوط الدولية والحاجات الوطنية. و «لعم» كانت تجمع «لا» و «نعم» في مفردة سياسية واحدة تعكس في النهاية تلك الصعوبات التي كان يعانيها الشعب. فالمبدأ كان يحتاج دائما إلى «لا» حتى لا تضيع البوصلة ويغيب الهدف (دولة عاصمتها القدس). والحاجة كانت تتطلب الاعتراف بالواقع والقبول المؤقت بموازين القوى وبالتالي حماية مصالح الناس بـ «نعم».
بين لا ونعم (لعم) تأسس الحلم الفلسطيني على براغماتية تجريبية قامت فلسفيا على فكرة «النفق» و «الضوء». فعرفات كان يردد دائما مقولة «النفق» وموضوعة «الضوء». فالنفق يعني الظلمة والحيرة والخوف والتوتر وعدم وضوح الرؤية وتلمس الأشياء للتعرف على الأحجام والقياسات والموازين. إلا أن غموض النفق كان ينتهي عند عرفات بالأمل والحلم والوصول إلى الضوء في نهاية الظلمة.
كل نفق له نهاية. والظلمة نهايتها الضوء. وآخر النفق العرفاتي كانت هناك فتحة أمل تخرج القضية إلى النور الذي يرشد القضية نحو دولة عاصمتها القدس.
مات عرفات (مسموما) قبل أن تخرج فلسطين من النفق. ورحيل عرفات الذي جاء في ظل الحصار والتجويع والظلام وإعادة الاحتلال يكشف في النهاية تاريخ شعب كتب عليه أن يعيش الحلم في نفق طويل امتد حتى الآن نحو قرن من النضال من دون أن ينجح في الخروج من تعرجاته ومطباته والوصول إلى فتحة الضوء (النور).
خمس سنوات مضت على رحيل عرفات ولاتزال القضية تمر في أطوار من التحولات... ولكن الحلم الذي تعرض للانقسامات والمزايدات والمصادرات الأيديولوجية يستحق التضحية. فالحلم يحافظ على اليقظة ويدفع آليات الانتباه للتحرك دائما باتجاه الخروج من ظلمة النفق إلى نور الضوء.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2624 - الأربعاء 11 نوفمبر 2009م الموافق 24 ذي القعدة 1430هـ