شعب واحد، مدينة واحدة، في برهة واحدة من أشد لحظات القرن الماضي كثافة وعمقا وخصوبة وتوترا، احتل واجهة مسرح التاريخ المعاصر. كانت دوامة التغيير المعاصر تتركز هناك وتتحقق. حدثٌ تجاوز زمانه الخاص، ويمكن القول عنه إنه مثل كل شيء في نهايات القرن وكان ختامه الباهر. وليس ثمة شك حقيقي في أنه كان نهاية حقبة في تاريخ العالم وبداية حقبة جديدة.
تداعى جدار برلين في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989 بعد 28 عاما من بنائه. يكشف هذا الحدث عن الدور الشامل الذي لعبته مدينة، ليس في تقرير مصير أمة فحسب، وإنما في تاريخ أوروبا كلها. لن نشارك المؤرخين في وصف الواقعة مجددا، لكن الذي يبدو جديرا بالاهتمام هو مقاربة الحدث في كونيته وكليته، والسعي لفهم كيف استطاع هذا الحدث الجزئي أن يكون مقدمة لتداعيات عالمية أكبر وأشمل، فهو بخلاف الحوادث الأخرى يمنحنا مدلولا كليا للتغيير. لهذا يتعين البحث عن تصور موحد وكلي للتغيير الذي تم انطلاقا من هذا الموقف الجزئي بالذات.
إن محاولة اكتشاف معنى هذا التحول التاريخي وإماطة اللثام عن مغزاه العميق، لن تكون ممكنة دون النظر إلى الحدث في عالميته. ذلك أن برلين التي عادت ألمانية بالتمام والكمال غدت بوابة للتغيير العالمي الأشمل، وصارت دروب التغيير كلها تقود إليها ومن خلالها.
لقد حقق الشعب الألماني مهمته التاريخية القومية بوحدته، إلا أنه، وفي الوقت نفسه، دشن مرحلة جديدة في تاريخ شعوب أوروبا والعالم، ومهّد السبيل أمام تقدم نوعي لحريتها. ولهذا السبب فإن هذا التطور لا يُنسب لتاريخ ألمانيا المعاصر إلا بمعايير جغرافية وسياسية محددة، فقد كانت له أبعاد أسمى وأشمل. وكما سيبرهن التاريخ فإن الوحدة الألمانية لم تك مجرد غاية قومية ألمانية فحسب، وإنما غاية كونية أكبر، كانت تعبيرا عن الإرادة العقلانية الحرة لشعوب أوروبا في التغيير من أجل حياة أرقى، ومن أجل تحقيق ذاتها عبر الانفتاح والتواصل. ومثلت تقدما متزايدا نحو قيم الحرية والوحدة والعقلانية، وتشكل هذه العناصر الثلاثة قوام تطور التاريخ الأوروبي الراهن. هكذا بدا ما لم يك قط عقلانيا بوجود الجدار، أصبح أكثر اتساقا مع العقل بغيابه وانهياره.
قرابة ثلاثة عقود من الزمن تحدى الجدار تقدم أوروبا ووحدتها، ناهيكم بألمانيا المقسمة. وبسقوطه صار بالإمكان الحديث عن التاريخ الأوروبي بصفته تاريخا للعقلانية والوحدة والحرية في آن. من هنا كان تشكل ألمانيا الموحدة نفيا للدولة الألمانية، بمعنى من المعاني، وخروجا للألمان من ألمانيتهم السياسية إلى أوروبيتهم، وهذا هو التحول الحاسم في تلك العملية التاريخية...
كان الجدار هو اللغز الذي توقف على حله معضلة التقدم الأوروبي، وانهياره كان بمثابة ولادة أوروبا الجديدة، وسيأتي الوقت الذي لن تستطيع فيه أوروبا أن تكتشف سر وجودها إلا من خلال هذا الحدث العظيم. حينها فقط تغدو حكمة ف. هيغل F.Hegel أكثر واقعية ووضوحا على هذا النحو (إن بومة منيرفا لم تشرع بالطيران إلا بسقوط الجدار).
* جامعي وباحث سوري، والمقال يُنشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2624 - الأربعاء 11 نوفمبر 2009م الموافق 24 ذي القعدة 1430هـ