«تأسس معهد العالم العربي في باريس العالم 1980 عندما اتفقت ثماني عشرة دولة عربية مع فرنسا على إقامته ليكون مؤسسة للتعريف بالثقافة والحضارة العربيتين في فرنسا وأوروبا، وهذه الدول هي الجزائر، المملكة العربية السعودية، البحرين، الإمارات العربية المتحدة، العراق، الأردن، الكويت، لبنان، ليبيا، المغرب، موريتانيا، عمان، فلسطين، قطر، السودان، سورية، تونس واليمن. ثم انضم الصومال وجيبوتي وجزر القمر، ومصر التي التحقت متأخرة نظرا لأنها لم تكن ضمن جامعة الدول العربية التي كانت مقاطعة لها». جاء ذلك في ورقة قدمها مدير معهد العالم العربي بباريس الطيب العروسي خلال مشاركته في ندوة بمركز كانو الثقافي.
وأضاف العروسي في ورقته بأن المعهد يعد «جسرا ثقافيا» حقيقيا بين فرنسا والعالم العربي. أما هدفه فهو تشجيع الأبحاث الثقافية عن العالم العربي والمبادلات والتعاون بين فرنسا والعالم العربي، وخاصة في ميادين العلوم والتقنيات، مساهمة بذلك في تنمية العلاقات بين العالم العربي وأوروبا ويرجع هذا المشروع إلى فكرة مفادها محاولة إيجاد جسر تعاون إضافي توظفه فرنسا في خدمة مصالحها الاقتصادية وتحتفظ على نفوذها في بعض الدول العربية، وبدأ الحديث حوله العالم 1979 ثم تبلور نظريا بعد أن وقعت عليه غالبية الدول العربية العالم 1980، لكن مع مجيء الرئيس فرانسوا ميتران أعلن عن البدء في تحقيقه على الواقع، وكان المعهد من بين مشاريع ميتران الثقافية السبع، التي ظهرت في مرحلته، وهي بالإضافة إلى المعهد، نذكر على سبيل المثال: «مركز العلوم لا فيلات، أوبرا باستيل، متحق أورساي، والمكتبة الوطنية الفرنسية الكبرى».
وتابع العروسي «يقع مبنى المعهد في قلب باريس ووسطها التاريخي، وصمم بناءه مجموعة من المهندسين، وعلى رأسهم (جان نوفيل وستوديو الهندسة) حيث سعوا إلى التوافق بين الثقافتين العربية والأوروبية عبر المبنى الذي تطل واجهته الشمالية على باريس التاريخية وهي توجه إلى العلاقة مع المدينة القديمة الموجودة بصورة رمزية على الواجهة. وتستعيد الواجهة الجنوبية المواضيع التاريخية في الهندسة العربية عبر تصميم المشربيات، المستوحاة من التاريخ المصري القديم، وهذه المشربيات هي عبارة عن نوافذ صغيرة تفتح وتغلق مع تغير عقارب الساعة. فتح المعهد أبوابه إلى الجمهورية شهر نوفبر/ تشرين الثاني 1987، وقد قام بأكثر من أربعة آلاف نشاط ثقافي، أي ما يعادل 200 نشاط ثقافي سنوي في مختلف الميادين الثقافية والفكرية».
مكتبة معهد العالم العربي فضاء للحوار واللقاء
وأشار العروسي إلى أن معهد العالم العربي فرض نفسه على الساحة الثقافية الفرنسية والأوروبية والعربية، بعد أن تجاوز عدد زواره مليون شخص سنويا، حيث تلعب مكتبته دورا مهما، إذ يؤمها ما بين الخمسئة والسبعمئة مستفيد. والحال أنها أصبحت فضاء للقاءات الثقافية والفكرية التي تجتذب الكثيرين ومن مختلف الشرائح الاجتماعية والسياسية، ما يجعل منها مرجعا لا غنى عنه حول العالم العربي في كل من باريس وأوروبا وفي العالم العربي نفسه، فهي تهتم بالحضارة العربية إبداعا وكتابة وبحثا في جميع ميادين المعرفة.
وأضاف العروسي يعد معهد العالم العربي مؤسسة ذات نفع عام، خاضعة للقانون الفرنسي، تشرف عليها فرنسا والدول العربية. بدأت هذه المؤسسة كمشروع العالم 1980، ثم فتحت أبوابها للجمهور سنة 1987، من أجل التعريف بالثقافة والحضارة العربية لدى الجمهور الفرنسي والأوروبي الواسع بواسطة أنشطة ثقافية مختلفة. وشيئا فشيئا فرضت مكتبة المعهد نفسها بين المكتبات الباريسية، بحكم اختصاصها وموسوعيتها حول العالم العربي. إذ يشير سبر الآراء الذي أجرته عدة طالبات مختصات في علم المكتبات والتوثيق في شهر يونيو/ حزيران 2006، إن الذين يرتادون مكتبة المعهد ينتمون إلى الفئات الاجتماعية التالية: في المرتبة الأولى يأتي العلمة الباحثون والأساتذة الذين تبلغ نسبتهم أكثر من 79 في المئة من رواد المكتبة، يحضرون شهادات عليا في باريس وفي أوروبا أو العالم العربي، ومنهم من يأتي من آسيا وأميركا أيضا، ثم يأتي الصحافيون في المرتبة الثانية لاستقاء معلوماتهم، ومتابعة الحدث من خلال ما توفره لهم المكتبة من مجلات وجرائد وكتب، ويأتي في المرتبة الثالثة فئة السياح وعدد كبير من الفضوليين الذين يأتون لزيارة المعهد ثم يكتشفون المكتبة فيصبحون روادا لها.
وتابع العروسي يلتقي في المكتبة الباحثون، وتلاميذ المدارس والثانويات، والطلبة والصحافيون، وأصحاب المهن الحرة، بخلاف السياح الذين يأتون للاطلاع على وثائق وكتب تخص بلدانا عربية كانوا زاروها أو يرغبون في زيارتها، من دون أن ننسى الفنانين الذين يبحثون عن صور للوحات زيتية من خلال الكتب المتوافرة في المكتبة، بالإضافة إلى آخرين يدفعهم حب المعرفة والاطلاع، فيأتون لزيارة المعهد بغرض البحث عن الجديد بين دفات الكتب. علاوة على ذلك كله، تجد من الزوار من تدفعه الأحداث التي يعيشها العالم العربي والإسلامي، وكذلك المواضيع المطروحة في الساحة القريبة حوله، إلى ارتياد المكتبة بحثا عن ضالته وتحقيقا لغايته. وبالتالي تجعل هذه العوامل متفرقة أو مجتمعة من المعهد فضاء للبحث والمطالعة واللقاء.
وحول إيصال رسالة المكتبة لجمهورها أشار العروسي إلى أن المكتبة تعمل على إيصال رسالتها بواسطة رصيدها المتنوع: كتب، مجلات، صحف، هذا على رغم أن المكتبة ينصب على العالم المعاصر، كونها تحتوي على أعمال نافدة من أمهات الكتب العربي، تستجيب من دون شك إلى عينة كبيرة من طلبات جمهورها، وذلك بلغات مختلفة، تحتل بينها اللغة العربية المقام الأول، إذ إن نصف رصيد المكتبة باللغة العربية، ويتوزع الباقي بين اللغات التالية: الفرنسية، الانجليزية، الاسبانية، والايطالية...
ومما لا مراء فيه أن المكتبة تلعب دورا اجتماعيا وثقافيا مهما، إذ يلتقي فيها الباحث المختص مع الجمهور الواسع من مختلف الجنسيات والثقافات والآفاق والشرائح الاجتماعية. ذلك أنها تخصص فضاء يرصد متابعة الأحداث عبر الصحف التي ستسمح بالاطلاع على الحدث باللغتين الفرنسية والعربية، فهي إذا مصدر مهم للأخبار اليومية والتحليلات الإخبارية، يجعلها متميزة عن غيرها من المكتبات.
يبلغ رصيد المكتبة ثمانية وسبعون ألف كتاب يضاف إليه فسم الدوريات الذي يحتوي على ألف وخمسمئة مجلة، منها خمسمئة عنوان مجلة، تمثل مختلف الانتاج الفكري والثقافي العربي.
وأضاف العروسي «إننا لا نتابع كل ما يصدر باللغتين العربية واللاتينية أو أوروبا والعالم العربي فحسب، بل حتى في آسيا وأميركا، وذلك بحكم تواجد الجاليات العربية المثقفة الموجودة في بقاع العالم التي راحت تنتج وتواصل معركة الابداع والكتابة والتحقيق ونشر الصحف والمجلات. وهذا ما يميز رصيد المكتبة ويضيف إليه عددا مهما من بنوك المعطيات المتنوعة المضمون، مثل الفهارس الآلية، التي من خلالها أو عن طريقها يصل المستفيد إلى المعلومات التي يبحث عنها، إذ إن المعلومات هي «جريد» تحتوي أكثر من أربعة وثلاثين ألف مقالة مفهرسة في جميع ميادين المعرفة، وبلغات مختلفة: العربية، الفرنسية، الانجليزية، الايطالية، الاسبانية، وهي تتابع الاحداث الذي لم تتطرق اليها الكتب بعد، اما بنك معطيات «أعلام» فهو يقدم قائمة تتجاوز الاثني عشر ألف مدخل بأسماء المؤلفين وتراجمهم، لذلك فإن هذه القاعدة هي تقريبا الفريدة من نوعها في العالم العربي، نظرا إلى كونها تحدد جنسية الكاتب وتبين مؤلفاته وانجازاته الفكرية والعلمية، كما نجد في هذه القاعدة تراجم لكتاب عرب أو مسلمين قدماء بجانب الكتاب المعاصرين، سواء كانوا عربا أن أجانب كتبوا عن العالم العربي.
بالإضافة إلى بنك معطيات الناشرين العرب أو المهتمين بالعالم العربي، وكذلك بنك معطيات ذاكرة المعهد التي تحصى كل الأنشطة التي يضمها المعهد مند نشأته حتى اليوم، وقد أنجزنا في هذا الإطار كتابا يحتوي على «دليل الأنشطة الثقافية» التي قدمها المعهد منذ عشرين عاما، وهي تفوق ثلاثة آلاف نشاط ثقافي، أي بمعدل ثلاثمئة نشاط سنويا، وهو رقم قياسي يرجع بطبيعة الحال إلى وجود المعهد في باريس أهم عاصمة ثقافية في العالم، ما يفرض علينا أن يكون المعهد في أرفع مستوى. لذلك يعج المعهد بالأنشطة الثقافية الكثيرة والمتنوعة من جهة، ومن جهة أخرى أثبتت مكتبة المعهد للعالم بأن للعالم العربي والإسلامي ثقافة وفكرا جديرين بأن نقدمهما إلى الآخر».
وتابع «إن تعدد هذه الأنشطة الثقافية هو تعبير ملموس وموضوعي عما يملكه العالم العربي من رصيد فكري وثقافي، وعما يحق له أن يقول من دون خجل، لا بكل فخر. وأقول هذا الكلام لأن هناك بعض المؤسسات كانت من ورائها دول حاولت أن تعمل تصريحا ثقافيا مماثلا ولم تنجح، لأنها لم تجد ما تقدمه للآخر، وما قدمته لم يكن عليه أي إقبال. فهل يدرك المسئولين العرب هذه الفكرة كي يحافظوا على هذا الانجاز المهم؟ سؤال نطرحه لأن بعض الدول العربية لا تعرف كم يغبطها العديد من الدول على هذا الانجاز الحضاري المهم.
وبالعودة إلى آليات عمل المكتبة، فهي تشتغل بمنهجية البحث الحر والاتصال المباشر بالكتاب أو الوثيقة، علاوة على الكتب النادرة المحفوظة في المخزون، والجذاذات الورقية أو الفيلمية ومناهج تدريس اللغة العربية التي تسلم بعد ملء استمارة مخصصة لذلك. ومما لاشك فيه ان الاتصال المباشر بالكتاب يسهل السبيل إلى الثقافة العربية التي قد تبدو بعيدة المنال بحكم وضعها الجغرافي، إذ نلاحظ يوميا ازدياد الجمهور الذي يأتي من المكتبات الفرنسية الأخرى، بل وحتى من المكتبة الوطنية الفرنسية للقيام بأبحاثه في المكتبة لقلة التعقيدات ولسهولة الوصول إلى المراجع المتوافرة دون انتظار طويل. ناهيك بأن المكتبة لا تفرض على روادها أية شروط مادية، ما يساعد كثيرا من الباحثين العرب الذين يأتون من مختلف الدول العربية لإثراء أبحاثهم، وفي طليعتهم الباحثون من مختلف جامعات المغرب العربي».
وأشار العروسي إلى أن الاحتياج إلى المعلومات عن العالم العربي، يزداد في العالم الغربي يوما بعد يوم، والمكتبة بمختلف أرصدتها تحاول أن تستجيب إلى مختلف الطلبات التي تصلها عن طريق الرسائل، والهاتف، والفاكس والانترنيت من جميع مناطق فرنسا، بل ومن العالم أجمع. وهكذا تمكن وسائط الاتصال الحديثة المتوافرة في المكتبة من التواصل والتجاوب مع جمهور آخر، أي ذلك الجمهور الذي يستفيد عن بعد، ولم يزر المعهد ولا مكتبته، ما يجعل المعهد مرجعا آسيا في فرنسا وفي دول أخرى.
وختم العروسي بأنه يسعدنا بهذه المناسبة أن نعلن أن المكتبة ستوسع نطاق آفاق البحث أمام جمهورها حيث ستضع كل البنوك معطياتها على الانترنت خلال الأشهر القليلة المقبلة. وذلك عبر نظام «فلورا» الذي نعمل على نقل كل بنوك معطياتنا عليه، حتى نواكب الثورة المعلوماتية المعاصرة التي اختزلت المسافات، فتضع المعلومات بين أيدي جميع المستفيدين والراغبين. هذا دون أن ننسى أن دور المكتبات ومراكز المعلومات والتوثيق يظل في نظرنا قائما لكونها تصون وتنظم الكتاب وتحافظ عليه.
العدد 2624 - الأربعاء 11 نوفمبر 2009م الموافق 24 ذي القعدة 1430هـ
استفسار
هل يمكن إجراء تربص في مكتبة العالم العربي ببارسي