لا يقتصر ارتباط نظام ري معين بثقافة معينة فقط بل يتعدى لما هو أكثر من ذلك فهناك نظم ري ترتبط بتكوين نظم بيئية تدعم كائنات حية معينة، وبذلك زوال نظم الري القديمة يؤدي لزوال تلك النظم البيئية وبالتالي انقراض لتلك الكائنات التي تدعمها تلك النظم البيئية.
الساقية والمنجيات هي أمثلة واضحة لتلك النظم التي ارتبطت بنظم بيئية وباختفاء تلك النظم أصبحت الكائنات الحية المتواجدة بها في عداد الكائنات المنقرضة من البحرين.
السواقي (مفردها ساقية) والمنجيات (مفردها منجى) عبارة عن قناة تحفر في الأرض تمر فيها المياه. وتعمم العامة في البحرين عليها اسم السيبان (مفردها ساب)،وغالبا ما تخصّ السواقي باسم السيبان.
كانت هناك العديد من طرق الري في القديم إلا أن أشهر طرق الري كانت عن طريق الساقية،ويقصد بالساقية تلك القنوات التي تحفر في الأرض وتخرج من العين أو تلك القنوات التي تتفرع من القناة التي تخرج من العين وقد تعارف عليها باسم «السيبان» مفردها «ساب». وهناك نوع من القنوات يسمى صودق وهي نوع من القنوات تمر من فوق ساقية أخرى، وتعرف أرضية الساقية التي حفرت فيها باسم الجصة.
وتسمى النخيل التي تسقى بالسلقية «سيحة نخيل» أو «نخل السيح»،أما الطريقة التي تستخدم فيها السواقي فتسمى التسكير. وتعتمد طريقة التسكير على غلق الساقية بالسكار وذلك لإعادة توجيه الماء وتوزيعه. والسكار عادة ما يكون قطع من القماش أو ملابس قديمة تلف مع بعضها وتغلق بها قناة الساقية. وتعتبر هذه الطريقة من الطرق القديمة جدا يدل عليها اسمها المشتق من الجذر «سكر» وهي من أصل آرامي وتأتي في الآرامية بمعنى غلق وتأتي أيضا بمعنى سد مجرى الماء.
وهناك حزمة من القوانين تنظم استخدام هذه السواقي وصيانتها ذكرت في قانون ري النخيل نوجزها في الآتي:
1 - إصلاح السواقي إذا كانت العين لها ساقية واحدة فمصرف إصلاحها على النخيل التي تسقى منها وأما إذا تفرعت منها سواقي متعددة فكل ساقية يكون مصرف إصلاحها على ملاك النخيل التي تسقى نخيلهم من هذه الساقية.
2 - ممر الماء الذي يمر في نخل أو نخيل متعددة إلى سقى أو جملة نخيل ليس للمالك حق أن يبدل الممر الذي هو ساقية بموجب الاصطلاح السابق ولا يغيرها عن موضعها إلا بموافقة أهل الأملاك التي تسقى نخيلهم منها فإذا حصلت الموافقة من المذكورين فليس له حق أن ينزل الساقية أو يرفعها عن مستواها السابق.
3 - ساقية تسمى صودق وهي تمر على ساقية أخرى إذا اختل بناؤها فلصاحبها أن يبنيها على قاعدتها السابقة بدون تنزيل أو ترفيع.
4 - الجصة هي أرضية الساقية وجوانبها من جميع الجهات إن كانت مشتركة أو خاصة بنخيل واحدة فلو حدث فيها خلل من الإقامة في بنائها السابق فيجب إصلاحها كما كانت سابقا إن كانت مشتركة فعلى جميع المشتركين وإن كانت خاصة بنخل فهي على مالك النخيل.
5 - يوجد بعض النخيل نازلة تتساقى مع نخيل مرتفعة فإذا عدل وضع الساقية وحدث ضرر يجب قسمة الماء بموجب مساحة النخيل.
6 - لو كانت سيحة نخيل تسقى من عين بالتسكير أي بالربط والهد كمثل عين عذاري ولها شخص معين من قبل مالكي النخيل يسكر الأوضاح بالإيجار فعلى جميع الضامنين أن يدفعوا له.
7 - ساقية أو عدد من السواقي أو محل مجمع لفوهات النخيل فيجب على كل ضامن أو مالك نخيل متوليها بنفسه إذا أراد أخذ الماء لنخيله أو أراد أن يسكر على الباقين فعليه أن يسد الفوهات سدا محكما بالكراريف الموجودة في المحل أو بالقرب منها ولا يجوز غلق فوهة نخيل أو عدد من الفوهات من الرمال أو الأرض الفوقية المجاورة للفوهة ؛ إذ إن ذلك يوقع الضرر على مجاري فوهات النخيل الأخرى.
8 - إذا كانت ساقية أو منجى أو ساب داخل نخيل مملوكة أو خارجا عنها في أرض مملوكة فيجب على مالك الملك الذي فيه هذه الساقية أو المنجى أو الممر ألا يحدث فيها أي ضرر كالدفن أو التضييق أو رمي بعض الأشياء كالكرب أو السعف أو الليف وغيرها فإذا حدث فيها شيء مما ذكر فهو ملزوم بإزالة ما أحدثه من ضرر لأنه هو المسئول عنه.
المنجيات جمع والمفرد منجى وهو مجرى مائي يحمل الماء الزائد من الأرض الزراعية و يتجه للبحر،و قد سُمي بالمنجى لأنه ينجي الأرض من الغرق. والبعض يطلق عليه مسمى «ساب» من باب التعميم فالاسم ساب يعمم على الساقية والمنجى وبهذه الصورة تصبح لفظة ساب بمعنى قناة محفورة في الأرض يمر فيها الماء. ومثلما للساقية حزمة قوانين منظمة كذلك للمنجيات قوانين منظمة وردت في قانون ري النخيل نوجزها هنا:
1 - المنجيات القديمة والحديثة ليس لأحد أن يسدها؛ بل تبقى كما كانت ما عدا صاحب الجادي الذي يسقي نخيله من المنجيات فله حق في ذلك من دون ضرر على النخيل التي تنجى.
2 - لو صار زيادة في الماء عند ملاك النخيل وليس بجواره أرض خالية لأجل تخريج الماء الزائد وبجواره نخيل أو أرض مملوكة فيجب على صاحب الملك المجاور أن يسمح له بحفر منجى في أطراف ملكه من إحدى الجهات التي يختارها مالك النخيل أو الأرض والمصاريف على طالب المنجى.
الغيلمة عند العامة هي سلحفاة المياه العذبة، أما السلحفاة البحرية فتسمى «حمسة»،وكلا اللفظين حمسة وغيلم وارد في المعاجم اللغوية القديمة بهذا المعنى. بينما تذكر المعاجم الحديثة السلاحف البحرية باسم «اللجأة»، وتسمية سلاحف المياه العذبة باسم «الرق»،وتم اعتبار الأسماء «غيلمة» و «حمسة» كألفاظ عامية. وتعتبر المنجيات هي البيئة المفضلة لهذا النوع من السلاحف التي لم يعد لها وجود إلا في الذاكرة الشعبية حيث لا زال البعض يتذكر كلمات تلك الأهزوجة الشعبية:
أتسبحي في البمبوع ياغيلمه
يحميش الله مالگاش رب السمه
و قد كان الأطفال يصطادون «الغيلمة» في السابق ليتسلوا بها،ثم تحولت بعد ذلك لعملية تجارية، حيث بدأ الأطفال يصطادون كميات كبيرة من «الغيلم» وذلك بغرض بيعها، و كان أحد «سيبان» عذاري حتى الثمانينيات من القرن الناضي ينتج كميات كبيرة من هذه السلاحف الصغيرة فيروي لنا شاهد عيان أنه وفي خلال ساعة واحدة تمكن الأطفال من صيد خمسين «غيلمة».
كان هذا الصيد الجائر وبداية جفاف السيبان والمنجيات هي الأسباب التي أدت لإعلان انقراض «الغيلمة» البحرينية من البحرين. إن هذه الغيلمة عاشت على جزر البحرين مئات السنين منعزلة عن العالم الخارجي فكونت مجموعة من الصفات الخاصة التي جعلتها نوعا مميزا من سلاحف المياه العذبة،فهي لا تهاجر ولا تتكاثر خارج حدود هذه الجزيرة. وقد كان لجفاف عين عذاري وسابها العظيم الأثر الأكبر في انقراض هذه السلحفاة.
عندما تزور المنجيات المهجورة أو ماتبقى من آثارها (هذا إن كانت لازالت موجودة) يمكنك العثور على أدوات شبكية مختلفة كانت تستخدم في صيد السلاحف الصغيرة، منها ما هو عبارة عن شبك حديدي وهو يمثل «رفوف ثلاجة قديمة» (ما عاد يباع في الأسواق مثيلها) استخدمت لحصر جزء من المنجى أو الساب، و بهذه الطريقة يتم عزل مجموعة من السلاحف واصطيادها باليد.
وقد استخدمت قطع مختلفة من «الشباك» المعدنية لسد المجرى تارة، و تارة أخرى كمصيدة يدوية. و من الأدوات المتطورة بعض الشيء نوع آخر هو عبارة عن آلة مكونة من صندوق مصنوع من شبك حديدي وله مقبض خشبي طويل.
لا يمكننا الحديث عن المنجيات دون أن نذكر النبات الذي غالبا ما ينمو على جوانب تلك المنجيات ألا وهو نبات القصب. وفي بعض المناطق المحاذية للمنجى وبالخصوص المنطقة القريبة من البحر التي يصب فيها يتكون جسم كبير من الماء العذب المختلط ببعض مياه البحر مكونين بيئة مثالية لنبات القصب الذي يكون بيئة خاصة تكثر بها الضفادع و سلاحف المياه العذبة وعدد من الحشرات وبالتالي يرقات الحشرات التي تعيش في الماء وأسماك صغيرة كالحراسين أو غيرها من الأسماك التي تعيش في مثل هذه البيئات والتي ذكرناها سابقا،كذلك عدد من أنواع الطيور.
باختصار تصبح المنطقة نظاما بيئيا مميزا، وللأسف حتى هذا النظام البيئي في طريقه للانقراض وإن وجد فلربما كان متدهورا بحيث لا يدعم كائنات حية.
العدد 2624 - الأربعاء 11 نوفمبر 2009م الموافق 24 ذي القعدة 1430هـ