على رغم أنّ التداعيات المباشرة للأزمة المالية العالمية على الدول العربية لم تكن ذات وقع كبير (إذا ما اعتمدنا على البيانات الرسمية الصادرة) قياسا بما حصل في الدول المتقدّمة، فإن ذلك لا يعني أنّها تجنّبت الأسوأ، وأنها استطاعت أن تحيّد نفسها عن التداعيات المحتملة اللاحقة. فقد شهدت الدول العربية في المرحلة الأولى من الأزمة المالية العالمية خسائر مباشرة تمثّلت بـ:
أ - الدول النفطية: خسائر ضخمة ناجمة عن الانخفاض الكبير الذي شهدته أسواقها المالية، إضافة إلى تعرّض مصارفها لمشكلة الشح في السيولة مصحوبة ببعض الخسائر لدى بعض المؤسسات الكبرى التي تعاملت في المشتقات المالية والتي كانت سببا في اندلاع الأزمة المالية العالمية. وتشير التقديرات أيضا إلى أنّ الصناديق السيادية لهذه الدول تعرّضت لخسائر بقيمة نحو 400 إلى 450 مليار دولار.
ب - الدول غير النفطية: وكانت التداعيات المباشرة للأزمة المالية العالمية عليها أقل من الدول النفطية وذلك اعتمادا على درجة انفتاحها على الأسواق المالية وارتباطها بالاقتصاد العالمي، ولوحظ أنّ المصارف في معظم هذه الدول تلافت نسبيا الوقوع في خسائر مالية نظرا إلى السياسة المتشددة التي كانت تتّبعها المصارف المركزية فيها، وابتعاد القطاع المصرفي ككل عن التعامل في المشتقات المالية ولعدم ارتباطه بشكل واسع بالخارج. وقد اقتصرت الخسائر المباشرة على الانخفاض الذي تعرّضت له الأسواق المالية فيها.
في المقابل، يبدو أننا بدأنا نشهد الآن معالم المرحلة الثانية من تداعيات الأزمة المالية العالمية والتي ستصبح جليّة في العام 2009. إذ يشير تقرير صندوق النقد الدولي الأخير إلى أن التباطؤ الذي تشهده البلدان النامية حاليا كبير للغاية نتيجة للأزمة المالية العالمية وللتأثير المباشر لأزمة الائتمان على الاستثمارات التي كانت ركيزة أساسية لمساندة الأداء القوي في بلدان العالم النامية على مدى السنوات الخمس الأخيرة.
ومع تضييق أوضاع الائتمان وانخفاض مستوى تقبل المخاطر، من المرجح أن يتقلص نمو الاستثمارات في بلدان العالم النامية ومنها بلداننا العربية بطبيعة الحال من 13 في المائة في العام 2007 إلى 3.5 في المئة في العام 2009، وهي نسبة كبيرة للغاية بالنظر إلى أن ثلث نمو إجمالي الناتج المحلي يُعزى إليها. كما من المتوقع تقلص حجم التجارة العالمية بنسبة 2.1 في المئة في العام 2009، وهي المرة الأولى منذ العام 1982، وأن تشهد دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا انخفاضا في معدّل النمو من 5.8 في المئة إلى نحو 3.9 في المئة في العام 2009.
ومع انخفاض أسعار النفط بالشكل الذي حصل فاقدة أكثر من 70 في المئة من قيمتها خلال 5 أشهر فقط على أبواب العام 2009، يبدو واضحا أنّ العام الجديد سيُخضع الاقتصاد العربي لامتحان عصيب، حيث ستبدأ التداعيات الحقيقية والغير مباشرة بالظهور، وستبرز عندها قدرة أو عدم قدرة الدول على تحمّل هذه الأعباء. وقد تنقلب المعادلة في هذه المرحلة على الأرجح، حيث ستعاني الدول العربية غير النفطية كثيرا إذا لم تحسن إدارة اقتصادها، في الوقت الذي ستتعرض الدول نفطية لخسائر كبيرة ليس أقلّها نتيجة انخفاض أسعار النفط، وستنكشف قدرة وحجم العوائد على امتصاص الصدمة في حينه.
وعلى أية حال، فإن المؤشرات الأولية تعطينها فكرة عن معالم التداعيات التي ستتعرض لها الدول العربية في المرحلة الثانية، وهي تتمثّل بـ:
أ - بالنسبة للدول النفطية:
1 - تراجع حاد في العوائد النفطية: إذ عمّقت الأزمة المالية من الانخفاض الحاد في أسعار النفط، ما من شأنه أن يؤدي إلى تراجع العوائد النفطية بشكل كبير، حيث تشير أرقام صندوق النقد الدولي، إلى أنّ خسارة كل دولار واحد من سعر برميل النفط تؤدي إلى أن تخسر السعودية مقابله نحو 3.5 مليارات دولار، والإمارات مليار دولار، والكويت 950 مليونا وقطر 350 مليونا.
2 - تراجع معدلات النمو: ستضطر دول الخليج إذا استمر انخفاض أسعار النفط إلى ترشيد الإنفاق نظرا إلى الضغط الذي سيتولّد على الموازنات لديها التي ستدخل عجزا كما يبدو، وهو ما سينعكس سلبا على معدّل النمو الاقتصادي فيها وعلى المشروعات التنموية وتاليا على الوضع الاقتصادي ككل.
3 - تراجع حجم التجارة الخارجية: إذ ستتراجع حجم الصادرات التي تتكون من النفط في معظمها وذلك بسبب انكماش اقتصاديات أكبر الدول المستهلكة للنفط في العالم وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأميركية، اليابان وأوروبا، كما سيتقلّص بالضرورة حجم الواردات حينها بسبب تباطؤ النشاط الاقتصادي والطلب في الدول الخليجية.
4 - تراجع في حجم الاستثمارات الأجنبية: سواء المباشرة الواردة إلى هذه الدول أو المباشرة الصادرة منها، إذ سيتم التركيز على عودة الاستثمار الخارجي لهذه الدول في هذه المرحلة لتحصين الداخل، وللمساعدة على تلافي التداعيات الأسوأ الممكن حصولها لاحقا.
وتفرض كل هذه العوامل على الدول العربية النفطية تحديات تتمثل في ضرورة دفع العجلة الاقتصادية إلى الأمام كي لا تقع في فترة ركود، ولتحافظ على معدّلات نمو معقولة في ظل التقديرات بانخفاض نسبتها إلى النصف عن الفترة السابقة. إضافة إلى ضرورة مواكبة الصناديق الاستثمارية لاقتصادها بحيث تخفف من آثار وانعكاسات الأزمة المالية العالمية عليه.
ب - بالنسبة للدول العربية غير النفطية:
1 - على رغم أنّ وقع التأثيرات المباشرة للأزمة المالية العالمية على هذه الدول كان أخف من غيرها في المرحلة السابقة، فإنه من المنتظر أن تدخل في نفق التداعيات الغير مباشرة، وهذا يعني أنّ الصورة قد لا تبقى وردية على المدى المتوسط والبعيد، إذ من المتوقع أن يطال تأثير الأزمة المالية العالمية اقتصاديات هذه الدول وتحديدا القطاعات المرتبطة بالطلب الخارجي مثل السياحة والعقار السياحي والصادرات، والتي من المفترض أن تشهد تراجعا في ظل الكساد الذي ضرب أكبر الاقتصاديات العالمية، وبما انّ اقتصاد معظم هذه البلدان خدمي ويقوم على مثل هذه القطاعات فمن المتوقع أن ينعكس التأثير السلبي لأدائها على الاقتصاد ككل وبالتالي على وضعها المالي وعلى نموها.
2 - كما أنّ هذه الدول ونتيجة اعتماد اقتصادياتها في جزء كبير منها على تدفقات الدول العربية النفطية المالية وعلى استثماراتها، فمن المتوقع أن تتضرر هي أيضا جراء انخفاض أسعار النفط إلى هذا الحد، وأن ينخفض حجم التحويلات القادمة إليها من دول الخليج أيضا.
لذلك فإن التحدي الأكبر لهذه الدول سيتمثّل بالحفاظ على معدّل نمو اقتصادي إيجابي وعلى الاستمرار في مسيرة الإصلاح الاقتصادي، وعلى تأمين مناخ استثماري آمن وجاذب لتحويل أكبر قدر من الاستثمارات إليها في القطاعات المهمّة والمنتجة خاصّة، لتساعد على خلق فرص عمل وتنمية اقتصادية حقيقية وزيادة في الإنتاجية من شأنها أن تحد من آثار أي انكماش قد يضرب حركة الاقتصاد الكليّ.
*باحث ومحلل أردني، والمقال يُنشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية» www.minbaralhurriyya.org
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2325 - الجمعة 16 يناير 2009م الموافق 19 محرم 1430هـ