تحدثت في مقالٍ سابق عن «أوضاع الدولة الإيرانية الطبيعية والطارئة». وخَلصتُ إلى أن هذه الحالة من شأنها أن تَحُول دون وقوع ضربة عسكرية (أو تُجمّدها على أقل تقدير) على اعتبار أنها تتعلّق بصداقات وعداوات ومصالح معقّدة جدا.
ثم تحدثت في مقال ثالٍ عن أوضاع وظروف الملف النووي الإيراني، وكيف أنها لا تُشجّع على قيام ضربة عسكرية؛ وذلك لعدم وجود مُحفّزات من الوكالة الدولية للطاقة الذرية تشجّع على الخيار العسكري، حتى مع وجود غُموض في بعض التفاصيل.
وأيضا لارتباط المشروع النووي الإيراني بفروض طاقة مدنيّة مُلِحَّة باتت تحتاجها الجمهورية الإسلامية في ظلّ غياب مصافٍ متطورة للتكرير، وتلويح غربي بمنع تصدير البنزين المُكرّر لإيران، ضمن وجبة عقوبات جديدة.
اليوم أتحدث عن المحاذير الفنّيّة لهذه الضربة الصهيونية. كيف ستحدث؟ ومتى؟ وما هي النتائج؟ ومَنْ المُنتصر ومَنْ المهزُوم؟ هذه أسئلة عادة ما تُثار عند اشتعال الحروب. فهي التي من شأنها أن تُحدّد قيمة الهدف السياسي الذي تُنتجه الحرب.
يرى الغربيون أن كلّ الملفات الإيرانية تُوصِلُ إلى الحرب ضدها. دعم طهران للحركات الفلسطينية المُسلّحة. دعم حزب الله. الموقف من الحوثيين. الموقف من الأمن الإقليمي. لكن يبقى الملف النووي الإيراني في طليعة تلك الملفات المُوصِلة للحرب.
في الموضوع النووي يتحدّث الإيرانيون بسقف يوازي السّقف الغربي. يقولون لخصومهم: «عندما نجلس إلى طاولة التفاوض بدون شروط وباحترام متبادل فإن قواعد اللعبة تقضي بأن كل طرف له الحق في إثارة أي شيء».
ويُضيفون (على لسان مندوبهم الدائم لدى الوكالة الدولية للطاقة الذريّة على أصغر سلطانية) «إذا قلت لي: يجب عليك. فإنني سأقول (لا). وإذا قلت: من فضلك، فإن الإجابة قد تكون (نعم أو ربما)». إذا هم يُريدون اعترافا دوليا بهم.
ورغم أن هذا الملف قد مضى على تسخينه أزيد من سبعة أعوام، وكان سببا في أوقات متكررة لأن تُلوّح الإدارة الأميركية الجمهورية (والكيان الصهيوني) بتوجيه ضربة عسكرية لطهران، إلاّ أن الإيرانيين ما زالوا مُتشبّثين بأعلى نقطة في هذا الملف.
بالعودة إلى موضوع الضربة العسكرية، يجب أن تتخيّل وقوعها من الجو وعبر الجغرافيا أولا، لكي تستطيع الإحاطة بالصورة كاملة، وتُدرك المخارج الواسعة أو الضيقة للمُعتَدِي والمُعتَدَى عليه.
يقع الكيان الصهيوني بجوار الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط. تُقابله شمالا الأراضي اللبنانية، ومن الشمال نزولا نحو الشرق الأراضي السورية، ومن الشرق الأراضي الأردنية ومن الجنوب الغربي الأراضي المصرية.
تتقاسم حدوده الشرقية والغربية دولتَيْن هما مصر والأردن وتجمعهما معه معاهدتا سلام (كامب ديفيد المصرية والموقّعة في العام 1978 ووادي عربة الأردنية والموقعة في العام 1994).
أما الحدود الأخرى (الشمالية) صوب لبنان فمحفوفة بالمخاطر رغم تطبيقات القرار 1701 وقبله تفاهمات 1993 و 1996. والحدود السورية (شمال شرق) تحكمها ظروف فكّ الاشتباك منذ العام 1974 لكنها ليست مرهونة بعملية سلام.
أما إيران فتقع في النصف الجنوبي للمنطقة المعتدلة الشمالية من الكرة الأرضية في وسط القارة الآسيوية. وهي تعتبر سابع دولة في العالم من حيث المساحة، وتقع بين خط العرض 25 درجة إلى 39 درجة شمال خط الاستواء.
تحدّها من الشرق كلّ من باكستان وأفغانستان، ومن الشمال حيث آسيا الوسطى كل من آذربيجان وتركمانستان وأرمينيا وبحر الخزر (قزوين)، ومن الغرب تركيا والعراق ومن الجنوب منطقة الخليج حتى عُمان نزولا صوب بحر العرب.
الآن. فإن تل أبيب إذا ما قرّرت شنّ ضربة عسكرية ضد منشآت عسكرية ونووية إيرانية فعليها أن تُقرّر مسار خط الطائرات المُغِيْرَة. وهي في ذلك أمام خياريْن يبدوان الأقرب (بالتفاوت) إلى تحقيق الأهداف.
الأول: هو انطلاق مقاتلات صهيونية من جهة الشمال الشرقي. وبذلك عليها أن تجتاز سبع دول هي الأردن، العراق، سورية، تركيا، آذربيجان، تركمانستان وأرمينيا، حيث تقع الأهداف الموضوعة والمستهدفة بالقرب من هذه المنطقة.
الثاني: وهو أن تسلك الطائرات الصهيونية المسار الجنوبي الشرقي. وبذلك عليها أن تجتاز الأراضي الأردنية وصحراء المملكة العربية السعودية وصولا لمياه الخليج، حيث تقع الضفة الشرقية من الخليج ومناطق الوسط الإيراني الصحراوي.
وعندما تختار الطائرات المسار الأول ستكون قريبة من مناطق تبريز سانندج ونهاوند وهَمَدَان وكرمنشاه وآراك وجبال البرز وزاجروس. وعليها أن تُقرّر حينها إن كانت هذه المناطق تضمّ الأهداف المرصودة أم لا. وهو بالتأكيد محلّ تشكيك.
وعندما تختار المسار الثاني فإنها ستُباشر الوصول باتجاه كرمان وإيرانشهر ويزد وصحراء خلوص والملح، ثم الانعطاف قليلا باتجاه الشمال الغربي للوصول إلى إصفهان. حينها عليها أن تُقرّر إن كانت الأهداف الثقيلة موجودة هنا أم لا. وهو أيضا محلّ تشكيك.
ذلك أن المنشآت العسكرية والنووية قد تمّ تشتيتها طبقا لما تُتِيحه الجغرافيا الإيرانية الواسعة والتي تبلغ 1648195 كيلومترا مربعا، وبالتالي فعلى الغُزاة أن يُقِيموا مقايسة عاجلة ودقيقة بين سعة الأهداف وقلّة الوقت.
بالرجوع إلى المسارَيْن فإن هناك محذورين. المحذور الأول في ذلك هو حين تعبر الطائرات الصهيونية أحد هذَيْن المسارين فإن الأمر سيخرج عن إطار الصراع الثنائي، على اعتبار أن عبور الطائرات الصهيونية أجواء عدّة دول سيعني أن هناك تنسيقا إقليميا للضربة، وهو ما سيُوسّع من عدد الخصوم وحجم ردّة الفعل.
والمحذور الثاني في ذلك هو أن الإيرانيين سيكون بمقدورهم الرّد من موقع «الحقّ الطبيعي» الذي عادة ما يكون مرهونا بظروف المعركة وليس الاستئذانات الدبلوماسية والسياسية، على اعتبار أنهم طرفٌ مُعْتَدَى عليه، وقيام العدو باستخدام إمكانيات رديفة ومجاورة.
في المُحصّلة ترى هيئة الأركان الصهيونية أن على طائراتها أن تجتاز ما بين 950 - 1400 ميل للوصول إلى الأهداف داخل الأراضي الإيرانية. شريطة تأمين محطّات منقولة للتزوّد بالوقود لكي تُحقّق الضربة جزءا مهمّا من أهدافها.
وإذا افترضنا جدلا أن أهم الأهداف النووية المُستهدَفة هي معمل المياه الخفيفة في بوشهر ومنشأة أراك للمياه الثقيلة، ومنشأة نتانز لأجهزة الطرد المركزي، فإن الموضوع يُصبح معقدا على اعتبار المساحات الجغرافية المتباعدة للأهداف.
كذلك عليها أن تواجه محطات إطلاق الصواريخ البالستية، ومصانعها وهي مُوزّعة في عدّة مناطق إيرانية بعضها في الجبال وأخرى في الصحراء وبعضها الآخر خبّأته الجهات الجغرافية الأربع ما بين شرق وغرب وشمال وجنوب.
في نموذج منشأة نتانز مثلا وحسب تقرير Center For Strategic & International Studies Washington فإن هذه المنشأة تمتد على مساحة وقدرها 670.000 قدم مُربّع بعمق ثمانية أمتار، وبحماية حائط اسمنتي قطره 2.5 متر يليه حائط آخر بديل، وبحائط آخر مُقوّى، مع وضع أجهزة الطرد في طبقة أرضية بعمق 75 قدما.
في المُحصّلة هناك ألف هدف (حسب رؤية هيئة الأركان الأميركية) يجب أن يُقصف خلال الضربة العسكرية الأولى لإتعاب إيران ومنعها من الرّد السريع، في حين أن السِّعَة الحقيقية للطائرات الصهيونية لا تتجاوز المئة هدف فقط.
وعندما تقوم تل أبيب بتقسيط الضربة فإن عليها أن تُواجه أمرَيْن حَتمِيَّيْن. الأول: ردّة الفعل الإيرانية بضربة عسكرية صاروخية مضادة. والثاني: فقدانها الغطاء السياسي الجديد المُواكِب للعملية العسكرية، وهو ما لن تستحصِل عليه بالتأكيد.
بالتأكيد فإن هذه التوقعات والتحليلات ما هي إلاّ إثارات يُمكن النّظر إليها بشكل أوّلي عند الحديث عن هجوم صهيوني على المنشآت العسكرية والنووية الإيرانية. فقد تُحرّك الظروف الإقليمية والدولية واقعا جديدا سيُغيّر من اتجاه الأحداث صعودا أو نزولا. وللحديث صلة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2621 - الأحد 08 نوفمبر 2009م الموافق 21 ذي القعدة 1430هـ
شكراً
شكراً للأستاذ محمد وبانتظار بقية الحديث . ليلى علي .
هذا من المستحيل
نشكر الكاتب على مقالاته المفيدة والهادفة والمنصفة واما عن ضرب أيران فهذ شيء من المستحيل لاننا نتصور بضرب أيران على أقل تقدير هي نهاية منطقة الخليج بأكمله وهذا الشيء يعرفه رؤساء دول الخليج اكثر من غيرهم لان ماتمتلكه أيران الان من أسلحه قادر على ان يحرق منطقة الخليج بأكملها... عندما تحاول امريكا مهاجمة ايران فان جميع قواعد أمريكا الموجودة في الخليج تحت مرمى أيران وهذا يعني أحتراق كل الخليج
ممتاز
أنت دائما لك أطروحاتك وأفكارك الجيده يا الكاتب وشكرا لك على المقال ولكن هيهات أن تضرب ايران وما يكون مصيرهم
ارهاصات الضربة الصهيونية
اسهبت جيدا وبمجهود تشكر عليه يا استاذ محمد في الخيارات الصهونية في ضرب القوى النووية الايرانية .. الا انني اعتقد ان كل هذه الخيارات غير مطروحة فلا يتصور ان تقوم الطائرات الصهونية من تل ابيب وذلك في ظل التغطية الامريكية المفترضة لهذه العملية حيث ان ما هو متاح لامريكا فهو متاح كذلك لاسرائيل واعني هنا ان يتم ضرب القوى النووية الايرانية من قواعد قريبة من ايران ، فهناك الكثير من الدول المحيطة التي لا تثق بالنوايا الايرانية اضافة الى دول تتخذ قراراتها المصيرية من واشنطن ( افغانسان مثالا)
تجذبني مقالاتك رغم دسومتها
لانملك إلى الشكر على هذا التحليل الرائع فأنت دائما تتحفنا بمقالاتك الرائعة.
كلمة
نشكر الكاتب على ما يقدمه دائما من مقالات تحليلية مفيدة