«إذا كنت تعتقد أن كلفة المعرفة باهظة، جرب الجهل»
دخلت علينا الانترنت دخول الفاتحين. دخلت علينا بشكل مباغت شأنها شأن كل شيء فيه ابداع. الابداع يباغتنا دائما. أي انه يفاجئنا بكل ما يتضمنه من معلومة شكلية كانت أو ضمنية. وهو لذلك يتطلب منا جهدا ووقتا طويلا لفهمه وفك طلاسم جديدة. وقد نقع في كمين سوء الفهم لعناصره لما يكتب حوله من قبل المتخصصين وغيرهم. فالانترنت هي كذلك. الانترنت هي شيء ابداعي. شيء مميز جدا. شيء حر بكل ما تحمله الكلمة من معنى. الانترنت كنز معرفي ليس له مثيل. لهذا نحن الآن نواجه لسبب ذلك عددا من المشكلات الناتجة عن سوء الفهم لهذا النتاج المبدع.
فقد أخذ بعض المهتمين والخبراء على عاتقهم في الدول المتقدمة إيجاد حلول للمشكلات التي تبرز على السطح لمواجهة كل طارئ. فقد وضع بعض من هؤلاء الخبراء والمهتمين بشئون التربية والتعليم، وهم كثر مسئولية حماية الأطفال والشباب المراهق من مساوئ استخدام أو عدم الوعي بالاستخدام الأمثل للانترنت على العائلة، ويعدونها مسألة مساوية في الأهمية لتعليم أبنائهم مخاطر عبور الشارع من دون الانتباه لحركة المرور وتعليمهم الكيفية التي يتوجب عليهم التزامها في عبورهم على الخط المتقاطع المخصص للمشاة في الوقت الذي لا تكون فيه هناك سيارات مقبلة في اتجاه سيرهم. أو يعدونها مسئولية من مسئوليتهم لتعليمهم دخول الحمام العام، إذ يتوجب اتقاء الحذر في استعمال حمام عام قد يكون قذرا حاملا لجراثيم لا حصر لها ولا عدد. أو يعدونها مسئولية من مسئولياتهم لتعليمهم كيفية استعمال الأدوية بشكل سليم ومنتظم أو الاستغناء عنها كلية حين لا تكون هناك حاجة أو داع لاستعمالها، أو تناول أغذية منتهية الصلاحية أو الوقوع في شبكة المخدرات الخطرة. بقاء الأبناء بعيدا عن المخاطر أي كان نوعها يقول الخبراء هؤلاء هو أولا وأخيرا من مسئوليات العائلة، هكذا كانت نهاية ما توصلوا إليه.
غير أن المسألة التي لم ينتبه اليها الخبراء والتربيون هؤلاء هي أبعد من ذلك في دولنا نحن العرب، بدأ من أن الغرب حيث ولدت التقنية الحديثة يتمتع نسبة عالية من السكان هناك بنسبة غير صغيرة من الوعي بمضار التقنية الجسدية، والنفسية، والأخلاقية، إلى جانب ذلك يتمتعون بنسبة عالية من المعرفة في كيفية التعامل معها، ويمتلكون أدوات فعل ذلك. فحين تقع المسئولية على أب وأم لا يعرفان من الانترنت سوى اسمها يصبح الجميع في خطر، المسئول والمسئول عنه. حين تقع المسئولية على أب وأم لا يعرفان كيفية استخدام لوحة مفاتيح الحروف تصبح العملية التربوية في خطر، وهذا أمر آخر غير التعليم. حين يصبح الأبناء أكثر قدرة من الأهل في فن التعامل مع الجهاز وتقنياته ومع الانترنت وتقنياتها ومع البرمجة وتقنياتها تصبح المراقبة عديمة الفائدة وغير مجدية لوجود أكثر من سبيل للوصول إلى الغاية النهائية من دون رقابة من أحد. اذ تصبح التقنية موجودة في كل مكان: داخل المنزل وخارج المنزل وقريبا، بل، أصبحت في اليد كما الساعة، التقنية الآن وصلت إلى عالم الهاتف النقال، وهي شيء خاص جدا، لا دخل لأحد في معرفة ما يدور من أمور في عالمها أي بين مستخدميها: مع من يتحدث. ماذا يشاهد. كيف يتعامل مع ما يشاهد ومع ما يسمع ومع ما يرسل ومع ما يستقبل ومع غيرها من أمور لا حصر لها توفرها التقنية العالمية والسريعة جدا.
والسؤال: إلى من توكل مراقبة الفعاليات التي تقدمها التقنية وخصوصا تقنية الانترنت؟
هل نترك أمر حل هذا الإشكال للحكومة، طبعا لا. السبب في ذلك يعود إلى أن غالبية الحكومات لها أجندة خاصة بها ويتمحور مجمل نشاط تلك الأجندة حماية الحكومة من تقلبات الزمن على مختلف الأصعدة ليس منها مراقبة النشاطات الإنسانية الخاصة، أية خصوصيات الفعل الإنساني. قد تكون هناك مراقبة من قبل الحكومات لـ «الفساد» الأخلاقي: «آداب» «قمار» «سوق سوداء» مخدرات» وغيرها من أمور هي في جوهرها أمر آخر غير مراقبة ما توافره التقنية من صور تحتاج منا باعتبارنا مجتمعا إلى وقفة تربوية أخلاقية جادة بعيدة عن التشنج والتعصب، وهو الذي ندعي أن غالبية الحكومات ليست لديها القدرة على القيام به. فالتاريخ يعلمنا أن الحكومات جميعها من دون استثناء فشلت عبر التاريخ فشلا ذريعا في تطبيق قوانين الرقابة. أي أن مقص الرقيب أصابه الصدأ، والحكومات الآن عاجزة تماما عن تطبيق أبسط القوانين ذات العلاقة بالرقابة أي كان نوعها، وذلك لأسباب كثرة ليس المجال هنا لذكرها. قد يعتقد البعض أنه لاتزال هناك بعض صور الرقابة التي تقوم بها الدول، نقول في شأن ذلك انه النزاع قبل الأخير.
هل نترك أمر حل هذا الإشكال إذن للشركات التي تقدم الخدمة، طبعا لا. فالشركات في معظمها شركات تهدف إلى الربح. ولكي تحقق الشركات نسبة الربحية المطلوبة لابد وأن توفر لها مميزات تستقطب من خلالها أكبر عدد ممكن من الزبائن. غير اننا لا نستطيع أن نسهم في وضع فلسفة اجتماعية خاصة بنا توفر للشركة الربح وتوفر لنا ولأبنائنا السلامة وراحة البال. وهذه الفلسفة التي نريد يتوجب أن يكون القائمون على واضع بنودها أفرادا مؤهلين التأهيل المناسب لوضع فلسفة من هذا النوع، إذ لا تقتل التقنية بالضوابط والحواجز ما ينتج عنه هروب المستخدمين إلى شركات أخرى غير وطنية ليس لها ضوابط أو حواجز تذكر لاستخدام التقنية ومضامينها.
هل نترك هذا الأمر إلى الأفراد رجال ونساء من لهم اهتمام خاص بالدين وعلومه. طبعا لا. يعود رفضنا ترك الأمر لرجال لهم علاقة ودراية بأمور الدين لسبب بسيط للغاية ويتمثل في أن معظم رجال الدين في محيطنا الاجتماعي هم أميون جدا في أمور ذات علاقة وثيقة بالتقنية. ونرى جدية انخراطهم في برامج تؤهلهم للخوض في هذه الأمور، وأن عليهم المبادرة بدراسة هذا العلم وتقنيته والفلسفة التي قام عليها. نحن لا نريد تشريعا. نريد توعية بمخاطر ما توفره التقنية ليس فقط في أمور المحرمات والتابو: الجنس وغيرها فقط وهو في الحقيقة لا يعد شيئا يذكر في ما توفره التقنية من معلومات هي أكثر خطورة من الجنس إذا ما أسيئ استخدامها.
هل نترك هذا الأمر للساسة الذين أعجزتهم مفردة الديمقراطية حتى أشعلوا بسببها الحروب التي بدأت ولم تنته، وهم عاجزون حتى هذه اللحظة عن الإتيان بتعريف متفق عليه لها. طبعا لا. نرى جديا أن يبتعد الساسة عن التقنية. كما نرى ألا نترك لهم أمر التشريع الخاص بالتقنية. هذا أمر قد يطول النقاش فيه.
هل نترك الأمر للصحافة المتخصصة والمتخصصين في علوم التقنية، نعم، ولكن بشرط واحد ومهم وهو أن يضعوا في اعتبارهم أن أهمية محاربة الفيروس الذي يصيب أفكار الشباب والمراهقين صغارا وكبارا أكبر بكثير من أهمية «فيروس» يصيب جهاز الكمبيوتر بعطب يستطيع أي هاوٍ أن يصلحه في دقائق معدودة في حين أن الفيروس الذي يصيب العقل البشري من الصعب إبطال مفعوله بالسرعة نفسها وبقدر الجهد المبذول. تخرج علينا صفحات الصحف المتخصصة دائما وفيها معلومات مسهبة عن الكيفية التي يستطيع الفرد إصلاح خلل سببه فيروس ما شاع عبر حدود الدول التي لم تستطع أن توقفه كما تستطيع أن توقف إنسانا حاول الهروب من جحيم بلده إلى نعيم بلد آخر. نريد من الصحافة أن توكل إلى المتخصصين خوض غمار توعية المجتمع لما للتقنية من فوائد وما لها من أضرار إذا ما أسيئ استخدامها.
هل نترك هذا الأمر للمدارس العامة والأهلية والتجارية منها، طبعا لا، لأن مهمة هذه المدارس الأساسية تكمن في تعليم المهتمين من الطلبة كيفية الاستفادة من التقنية لا تعلم الإحاطة من مشكلاتها الاجتماعية. غير انه في الإمكان المطالبة بوضع منهج يوفر قدرا من المعرفة التي يستطيع من خلالها الطالب تحصين نفسه عن الوقوع في مخاطر التقنية. في هذا المجال هناك نقص كبير في مناهجنا التعليمية. هذه المناهج متوافرة في كثير من جامعات ومدارس الدول المتقدمة ويمكننا النظر إليها والاستفادة منها.
والحال كما هو مع العلوم الأخرى، هناك في الساحة أنصاف متعلمين، بل هؤلاء الأنصاف لا يرتقون في الغالب إلى مستوى أرباع متعلمين وهم بأعداد كبيرة يدلون بدلوهم في هذا الأمر من دون وجل من محاسب أو ضالع في هذا العلم، يدلون بدلوهم وكأنهم مستشاريو أكبر الوزارات المتخصصة في التربية والتعليم. علينا توخي الحذر في مناقشاتنا هذه المسائل مع أفراد من هذا النوع فقد يضرون أكثر مما ينفعون.
هناك مشكلات تصاحب الانترنت. لا جدال في هذا الأمر. دول العالم المتقدمة تعي ذلك، ونحن أيضا نعي هذا الأمر ربما بشكل أكبر من تلك الدول. ونعي إلى جانب ذلك إننا لسنا كما النعام ندفن رؤوسنا في التراب وكأنما شيء لم يكن ولا يعنينا. نحن نريد هذه التقنية الجبارة. نريد هذه التقنية التي منحت العقل البشري إجازة من تخزين المعلومات وتركته حرا يفكر كيف يشاء ويوظف إمكاناته في التحليل والخلق والإبداع. نعم، نحن الآن كما هو الحال في الدول المتقدمة نرفض توظيف العقل البشري لتخزين ما نشاء تخزينه من معلومات مستخلصة من التاريخ أو النظريات أو من تجارب خاصة. التخزين مضر جدا ويكمن ضرره المباشر بانتهاء صلاحية المادة المخزنة.
يتوجب علينا ونحن نستمد قوتنا من هذا الرفض الذي يرتقي بالعقل البشري إلى أعلى المراتب أن نجد الحل المناسب لمشكلات أو مشكلة الانترنت المسمى «أخلاقية». علينا أن ننظر إلى الأمر بعقل منفتح يؤمن: «ألا حياء في العلم».
لذلك يفضل أن نعود قليلا إلى الوراء لنرى كيف تعامل السابقون مع الصور الإباحية التي رسمها الفنانون في مختلف بقاع الأرض ثم الصور الإباحية المكتوبة التي صور وأبدع كتابها فيها صور الجنس وعلينا العودة إلى المجتمعات التي خرجت فيها الصور الإباحية الفوتوغرافية أول ما خرجت من الصحافة الأجنبية ونستفيد من وجهات نظرها في هذا الشأن. كيف تعامل الآباء ليس في مجتمعاتنا فقط، بل في المجتمعات الأكثر انفتاحا على هذا النوع من الإعلام المطبوع. كما يجب أن نرى كيف تعامل الآخرون الأكثر انفتاحا على هذا النو
العدد 393 - الجمعة 03 أكتوبر 2003م الموافق 07 شعبان 1424هـ