يستمر العدوان الوحشي الإسرائيلي على غزة، من دون أن يتمكّن من تحقيق أي أهداف كان يصبو إليها، أو أن ينال من عزيمة المقاومة التي قدّمت للعرب والمسلمين نموذجا ثانيا بعد النموذج اللبناني في الثبات والصمود والإبداع الجهادي في خط كسر مخططات العدو والتأسيس للنصر.
ومع بروز الفشل الميداني الصهيوني أمام المقاومة وصعوده إلى الواجهة، وسّعت آلة القتل والإبادة الإسرائيلية من دائرة مجازرها، فلم توفّر المدارس التابعة للأمم المتحدة، في استعادة وحشية كاملة لمجزرة قانا، وفي تنافس متواصل بين قادة العدو حول من هو الأكثر ولوغا بالدم العربي، وفي ملاحقة للنساء والأطفال والشيوخ، وإبادة متواصلة لعائلات بأكملها، وفي ظلّ استخدام لأكثر الأسلحة الأميركية فتكا، بما فيها الأسلحة الفسفورية المحرّمة دوليا.
ووسط هذا العجز الإسرائيلي أمام مقاومة أشبه بالأسطورة، وفي مواجهة مقاومين مجاهدين شيّدوا مجدا متصاعدا للمسلمين والعرب، عَمِل النظام العربي الرسمي على التواري خلف خطوط المذبحة، لا بل جعل من نفسه وسيطا بين المقاومة والاحتلال، وعمل على طرح المبادرات الملغومة التي أُريد منها إحراج المقاومة تمهيدا لإخراجها من الساحة السياسية الفاعلة، ولم يُكلّف نفسه أن ينبس ببنت شفة عن الاحتلال الإسرائيلي كونه المشكلة الأساس والداء العضال الذي يصنع المذابح المتواصلة التي لا تهزُّ في معظم الحكام العرب ضميرا ولا وجدانا ولا إحساسا.
إننا في الوقت الذي نؤكد -من خلال ما نملكه من معلومات، وما نعرفه من صلابة المجاهدين في غزة- أن العدو عاجزٌ عن الانتصار على المقاومة الفلسطينية الباسلة، وأنه سيدفع الثمن السياسي لاحقا، على رغم سعيه المتواصل لإخفاء خسائره وهزائمه الميدانية، ندعو الطلائع الحرة في الأمة إلى القيام بالمزيد من الخطوات العملية الضاغطة على الحكّام والسلطات وعلى كل ما يتصل بالعدو، وإلى المبادرة إلى كل ما من شأنه أن يمثل انتصارا للشعب الفلسطيني ودعما لمقاومته البطولية الرائعة، وعلى شعوبنا العربية والإسلامية أن تختزن في وجدانها الرفض الفعلي لأي سلام مع المتوحشين اليهود، وأي تعايش مع هؤلاء المغتصبين الحاقدين على مستوى الزمن كله، لأنهم يمثلون عنصر الجريمة الأكثر بشاعة وفظاعة وامتدادا وفسادا في الأرض.
إننا ندعو فصائل المقاومة في فلسطين، التي تعرضت وتتعرض لأقسى حالات الضغط من العدو والصديق، إلى أن تنتبه إلى أن الكثير من المواقع العربية الرسمية ليست حيادية في مسألة الحرب عليهم، وهي تشكّل مع العدو غرفة عمليات سياسية واحدة للإطباق سياسيا على المقاومة الفلسطينية بعدما عجز العدو عن هزيمتها ميدانيا.
ونريد لشعوبنا العربية والإسلامية التي أثبتت إخلاصها وأصالة انتمائها، من خلال اندفاعها الوجداني والعملي مع المقاومة وخط الممانعة في الأمة، أن تواصل مسيرتها وحركتها في الشارع دونما كلل أو ملل، لأن الضغط على الأنظمة المتخاذلة هو ضغط غير مباشر على الاحتلال نفسه، وعلى هذه الشعوب أن تعرف ما معنى أميركا الإسرائيلية في تغطيتها المتواصلة لأبشع المجازر الإسرائيلية، وتنكّرها لكل حقوق الإنسان وللمبادئ الإنسانية وللقانون الدولي، ولأبسط المفاهيم الإنسانية التي ظلّ الرئيس الأميركي بوش يقدّم نفسه على مدى ثماني سنوات كرسول بعثه الله لتحقيق ذلك، ولتقديم نسخة أميركية عن الديمقراطية التي يُرادُ للعالم العربي والإسلامي أن يسير في ركابها.
القرار 1860 فرصة إضافية لـ«إسرائيل»
إن السفير الأميركي في الأمم المتحدة، والذي يحظى باحترام الكثير من المسئولين العرب، هو يهودي أكثر من اليهود، وإسرائيلي أكثر من الإسرائيليين، وهو لا يحمل توجيهات من حكومته بشأن دوره في مجلس الأمن إلا تلك التي تمثل توجيهات مجلس الحرب الإسرائيلي المصغّر... ولذلك نحن نعتقد بأن العرب الذين قدّموا للعدو أسبوعين كاملين للاستمرار في مجازره، عندما قرروا الذهاب إلى مجلس الأمن بعد كل المراوغة والمداهنة السياسية، كانوا يعرفون تماما أنهم يذهبون إلى الحضن الأميركي الذي يمثل المعقل الإسرائيلي، حيث لا أمم متحدة ولا من يتحدون.
وعندما قرر المجلس في قراره الأخير الذي يحمل الرقم (1860) وقف إطلاق النار، جعل المسألة غير ملزمة للعدو، ليعطيه مزيدا من الوقت لتوسعة عدوانه، مع أن بعض العرب استعرضوا مجددا وأوحوا بأنهم قاموا بواجبهم تجاه الفلسطينيين.
إننا نرى في كل ما يجري حربا أميركية على قوى المقاومة في فلسطين، تماما كما كانت -ولا تزال- في لبنان، وكما أن أميركا تمثل الذراع الدبلوماسية والسياسية والأمنية الداعمة لـ»إسرائيل»، فإن «إسرائيل» تمثل الذراع العسكرية الأميركية ضد كل الأحرار، في كل حروبها ومجازرها، ولا يوجد في العالم موقعان حليفان في خط الشر والإرهاب والإبادة، كالحليفين الأميركي والإسرائيلي.
وإن الاحتلال الأميركي للعراق وأفغانستان يتغذى من الاحتلال الصهيوني في فلسطين، كما أن الاحتلال الإسرائيلي يتغذى من الاحتلال الأميركي الذي يعمل على توطيد علاقاته بالنظام العربي الرسمي، كلما حاصرته المقاومة الشريفة في كل مواقع احتلاله في الأمة.
أما دول الاتحاد الأوروبي التي قدّمت -قبل بضعة أسابيع- هدية سياسية خطيرة لـ«إسرائيل»، حيث رفعت من درجة علاقاتها مع هذا الوحش، فقد علّقت على صدرها وساما عدوانيا جديدا، وقد استمعنا إلى المسئولين الفرنسيين والألمان والإنجليز وهم يتنكّرون لكل مبادئ حقوق الإنسان وعناوين الثورة الفرنسية وشعارات المقاومة ضد النازي، عندما حاولوا تحميل فصائل المقاومة في فلسطين مسئولية المجازر الوحشية الكبرى التي ارتكبتها وترتكبها «إسرائيل»، بدلا من أن يتحمّلوا وزر المسئولية الأخلاقية والتاريخية في كل ما تسبّبوا به من مآسٍ للشعب الفلسطيني وشعوبنا كلها.
تحصين المقاومة ضرورة إنسانية
إن علينا جميعا أن نعرف أن ما يجري ليس حربا على غزة فحسب، ولكنه إغارة دولية شاملة على حركة التحرّر العربي والإسلامي بكل فصائلها وبمختلف روافدها، ولذلك فإن هذه الحركات مدعوّة إلى شدّ أزر بعضها بعضا، لا بل أن تواصل السعي لإيجاد برنامج للمواجهة والمقاومة الشاملة، وأن تعمل الكوادر الثقافية والسياسية بمختلف أطيافها ومذاهبها وتنوعاتها على تركيز ثقافة المقاومة في الأمة، وعلى تحفيزها على الدخول في مسيرة الوعي التحريري الشامل، لتتحوّل مآسي الفلسطينيين الكبرى إلى فجرٍ للحرية والعزة والتحرير على مستوى الأمة كلها.
وعلينا في لبنان أن نستمر في احتضان المقاومة وخط الممانعة، في مواجهة ما تخطط له أميركا الإسرائيلية لاستكمال حربها المتدرجة على المقاومة في لبنان والمنطقة، ليستمر لبنان في الموقع الداعم للقضية الفلسطينية، ولحقّ الفلسطينيين الشرعي والقانوني في العودة إلى أرضهم، لتكون فلسطين بكاملها، من النهر إلى البحر، أرضا للدولة الفلسطينية التي لابد من أن تقام على أنقاض الاحتلال وكيان الاغتصاب الذي مثّل العنوان الأبرز للجريمة عبر التاريخ.
كما علينا في لبنان أن نواجه المرحلة الصعبة والمعقّدة، بالمزيد من الوحدة الوطنية التي تُسقط كل من يحاول إثارة الفتن في أوساط الشعب، أو يحاول الانحراف بالمسيرة الداخلية عن خط التضامن والاحتضان للقضايا العربية والإسلامية الكبرى، وفي مقدمها القضية الفلسطينية
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2324 - الخميس 15 يناير 2009م الموافق 18 محرم 1430هـ