في الأسبوع الماضي صدرت عن منظمة «الفاو» الدولية اشارة خطيرة تنبه الى احتمال حصول مجاعة كبرى في العراق قبل نهاية السنة الميلادية الجارية. تقرير «الفاو» خطير للغاية لأنه يذكّر الى حد كبير بتلك المجاعات التي ضربت الكثير من الدول الافريقية والآسيوية في سبعينات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي بسبب الفوضى الأمنية وانهيار الدولة أو عدم وجود فرص للعمل نظرا لتفكك علاقات الاجتماع والتبادل الداخلي. هذا الأمر نجد بعض اشاراته في الأراضي الفلسطينية المحتلة. فالناس هناك لا تجد فرصة للعمل واذا وجدت فإن قوات الاحتلال تعطلها أو تبعثرها حتى تدفع العائلات الى الهجرة أو تضطر بعضها إلى البحث عن عمل بسعر بخس في المستوطنات الاسرائيلية أو في بناء مشروع «الجدار العنصري» الفاصل بين دويلة موعودة واستيطان لا يريد التراجع عن أراض زراعية ومناطق لا يحق لـ «اسرائيل» البقاء فيها. الأمر الآن يتكرر في افغانستان ويحتمل أن يحصل في الأشهر الثلاثة المقبلة في العراق.
القانون الدولي واضح في تحميل مسئولية أية كارثة غذائية أو أمنية تحصل في أي بلد يتعرض للاحتلال من قبل دولة كبرى أو مجاورة. القانون الذي نصت عليه اتفاقات جنيف والمعاهدات المبرمة في الأمم المتحدة وكذلك الأعراف تشير الى مسئولية المحتل في تعريض حياة وأمن وغذاء وثروة أي بلد للاستنزاف أو التآكل أو غيرها.
هذا الأمر حصل مرارا في فترات الحروب، والمجاعات دائما تتكرر في البلدان التي تتعرض للفوضى والمحتل لا يكترث بتداعيات ذلك لأن جهوده تكون منصبة على ملاحقة فصائل المقاومة أو مطاردة المعارضين لوجوده أو... وهذا الأخطر أن يكون المحتل يخطط لحروب جديدة ولذلك لا يكترث كثيرا لما يحصل يوميا ضده وحوله.
الفوضى الأمنية في العراق، كما يبدو من ظاهر الأمور، فوضى مخططة الى حد ما. وترك الفوضى تأخذ مداها ليس فكرة استعمارية مستحدثة بل هي سياسة معروفة القصد منها في النهاية إنهاك البلد واشغاله بأمور صغيرة وتفصيلات تافهة تنسيه همه الأكبر وهو ازالة الاحتلال واسترداد السيادة والاستقلال.
المقاومة العراقية بالتأكيد ليست مسئولة عن الفوضى الأمنية ومصلحتها الوطنية تقضي بمكافحتها ومحاربتها حتى لا تتشتت آراء الناس وتتوزع همومهم بين العمل من أجل التحرير والجهد من أجل الحصول على لقمة العيش. وظيفة المقاومة ضمان أمن الناس وحماية المجتمع حتى يكون البلد على استعداد تام لتقبل نتائج التحرير.
الاحتلال مصالحه تكون على الضد من المقاومة. فهو يريد تثبيت وجوده من خلال اثارة الفوضى والشغب والخبط العشوائي شمالا ويمينا وعدم تركيز الأهداف وتوزيع الضربات حتى ينجح في تشتيت الانتباه وزرع نوع من الحاجة اليه. فالاحتلال حتى يستمر لابد أن تستمر الحاجة اليه... وهذا لا يحصل إلا إذا انقسم المجتمع وتوزعت رغباته وتفككت مصالحه وبات كل فريق يفكر باسلوب معاكس للآخر. فسياسة «فرق تسد» استراتيجية استعمارية قديمة وهدفها الدائم تأسيس حاجات يومية لتأكيد وجوده وابقاء الناس في حال خوف وهلع من الفوضى التامة والانهيار الشامل. وحين تزداد القلاقل ترتفع وتيرة المخاوف فيتغلب هاجس الأمن على مهمة التحرير ويصبح المجتمع يرتقب «لقمة العيش» من شاحنة كتب عليها «تقدمة من الشعب الأميركي».
هدف الاحتلال دائما من افغانستان الى البوسنة وصولا الى فلسطين والعراق هو اذلال الناس وتعويدهم على قلة العمل والاتكال على المساعدات التي يضطر الجمهور الى قبولها حتى لا يتعرضون للمجاعة كما حصل مرارا في الصومال وكينيا واثيوبيا وأحيانا السودان.
في الأسبوع الماضي صدر عن منظمة «الفاو» ما يشبه الانذار باحتمال حصول مجاعة في بلاد الرافدين وفي ارض تزخر بالثروات على أنواعها. هذا الانذار ليس تخويفا انه احتمال متوقع في حال استمرت الفوضى على ما هي عليه في العراق.
على الدول العربية قراءة التقرير جيدا وأخذه على محمل الجد لأنها بذلك تفهم ماذا يحصل في العراق، ولماذا حصل وما حصل فيه، وما يمكن حصوله في المستقبل القريب ضد «بلدان مجاورة»؟
تقرير «الفاو» جرس انذار ومنه نستطيع أن ندرك ما المقاصد الأميركية من وراء الفوضى العراقية ولماذا قررت واشنطن في ضوء «تداعيات الدولة» تعزيز قواتها وجلب 51 ألفا من الجنود الى بلد يريد الاستقلال لا المزيد من قوات الاحتلال؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 388 - الأحد 28 سبتمبر 2003م الموافق 02 شعبان 1424هـ