في إطار مشروعه «لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط بعد نجاح تجربة العراق» دعا الرئيس الأميركي جورج بوش الفلسطينيين إلى الاقتداء بالعراقيين.
بالمقابل دعا الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى «مكافحة الفوضى التي تعم العالم» من خلال «تعزيز دور الأمم المتحدة»، رافضا فكرة «تجاهل دور الرئيس الفلسطيني المنتخب»، ومنتقدا بشدة «الاحادية الأميركية» في التعامل مع المسألة العراقية، موضحا انه كان «مؤيدا للإطاحة بصدام حسين ولكنه يختلف مع الأميركيين في الأسلوب».
وهنا قد يكمن بيت القصيد فيما نحن فيه من «فوضى عالمية» نشأت برأي الكثيرين بسبب فشل الإدارة الأميركية الحالية في اختيار الاستراتيجية السليمة في مكافحة الارهاب بعد وقائع 11 سبتمبر/ أيلول.
حتى صحيفة الـ «واشنطن بوست» أشارت في تقريرها - الذي نشرته تعليقا على خطاب بوش في الجمعية العامة - إلى «فقدان مثل هذه الاستراتيجية الواضحة والشفافة» على الأقل فيما يخص العراق، واصفة الخطاب بانه «كان مخيبا للآمال».
في المسافة الواقعة بين تقييم أو رؤية الرئيسين الأميركي والفرنسي تقع رؤية أو قراءة الأكثرية الشعبية في عالمنا العربي والإسلامي بمن فيها «الأكثرية الصامتة للشعب العراقي» للأوضاع الجارية في العراق وفلسطين.
بمعنى آخر فإن تلك الأكثرية كانت ولاتزال تعتقد بأن العنف وعسكرة الأوضاع ونزيف الدماء والاقتتال والإطاحة بالاستبداد أو الحكومات الظالمة عن طريق الغزو وشن الحروب ليس هو الأسلوب المفضل لديها للتغيير أو لتجفيف منابع الارهاب! بل العكس تماما فإنها تعتقد بأن تلك الأساليب انما تقوي جذور الارهاب وتزيدها صلابة.
وحدهم المستفيدون من التنظير للحروب والغزوات هم الذين مازالوا يصرون على اتخاذ النهج الذي أثبت فشله وعقمه.
يقول توماس فريدمان في مقالته الأخيرة في الـ «نيويورك تايمز»: «فالمقاومة من الصداميين تزداد قوة وليس ضعفا. وقد بلغت من القوة والشراسة ما يستدعي في نظري شن حرب أخرى ضد القوى الموالية لصدام في المثلث السني».
ويضيف فريدمان: «وإذا كان لابد من وضع نهاية لهذه الحروب، فإننا لسنا من يوقفها... فلا يمكن خوض مثل هذه الحروب إلا من قبل العراقيين أنفسهم. أما إذا واصل الأميركيون قتل العراقيين فانهم انما يقتلون أنفسهم».
يذكر هنا أن توماس فريدمان هذا سبق له أن كتب مقالا مفصلا قبل مدة تحت عنوان: «مستوى ما من الحرب الأهلية مطلوب»، وذلك لحل أزمة الشرق الأوسط والقضية العراقية دعا فيه وقتها رئيس الوزراء الفلسطيني السابق محمود عباس ومجلس الحكم العراقي إلى تجنيد الطاقات الأمنية والاستخبارية والعسكرية لخوض «حرب المعتدلين ضد المتطرفين».
من جهته كان واضحا أن رئيس مجلس الحكم الانتقالي العراقي أحمد الجلبي والذي يعتبر على نطاق واسع بأنه «عرّاب» السياسة الأميركية الحالية في العراق عندما كتب مقالته الشهيرة على صفحات «الشرق الأوسط» بتاريخ 9 يناير/ كانون الثاني دعا فيه قوات التحالف إلى العمل على مستوى العراق كله بالآتي:
«تحتاج قوات التحالف إلى أن تتحرك سريعا لاعتقال واستجواب آلاف الأشخاص من البعثيين وفدائيي صدام والأعضاء السابقين في أجهزة الأمن والجيش بالإضافة إلى اخوانهم وأبنائهم وأبناء اخوانهم وأبناء عمومتهم... وأن تحيط بالبلدات وتمنح السكان مهلة 84 ساعة كموعد أخير لتسليم الأسلحة غير المشروعة يتم بعدها تفتيش مكثف من بيت لبيت، وإذا ما عثر على مخبأ أسلحة في المنزل فإن كل سكان المنزل من الرجال بين أعمار 51 و05 عاما يجب اعتقالهم».
مختتما القول: «إن بعض هذه الخطوات سيؤدي إلى مضايقة الأبرياء... ولكنه... يجب على أميركا أن تتجه إلى أصدقائها وحلفائها في العراق لتقاسم عبء هزيمة صدام... انكم تمتلكون القوة الحربية وقوة الحركة ونحن نمتلك المعرفة المحلية والاستخبارات. وفقط عندما نعمل معا كشركاء حقيقيين فإننا نستطيع أن نحقق النصر الذي يعتبر حيويا للغاية بالنسبة إلى بلدينا».
والسؤال الآتي الذي يخطر ببال كل متتبع حريص على مستقبل منطقتنا هو: هل صحيح فعلا أن الحل الوحيد لكل مشكلاتنا هو: «الاقتتال»؟ وان تطلعات الأميركيين والغالبية العراقية الصامتة كما يقول فريدمان في مقالته الأخيرة هي: «ألا يتحول العراق إلى إيران أخرى ولا إلى نظام صدامي آخر، بل إلى عراق جديد محترم»؟ ويعني أن العراق «لن يكون فيتنام».
الذين قرأوا أحمد الجلبي من أصدقائه ومن الذين شاطروه الرأي في منهجه العام ذهلوا وبهتوا واعتبروه «إعادة صياغة جديدة لحكم نظام صدام حسين».
والذين يتابعون مقالات توماس فريدمان منذ أن نظّر للحرب خلافا لرأي الأكثرية من الرأي العام العالمي يقولون اليوم إنه بعد أن صُدم بفقدان المحافظين الجدد لاستراتيجية واضحة فإنه عمليا بدأ ينظّر لـ «فتنمة العراق» إنقاذا لسمعة بلاده التي بدأت تتقاذفها أمواج النقد اللاذع من داخل المجتمع الأميركي نفسه.
ثم بعد ذلك يعتب علينا بعض الأحبة والمخلصين والناصحين من العراقيين وغيرهم طالبين التخفيف من انتقاداتنا اللاذعة لسلوك الإدارة الأميركية في العراق «حفظا للنفس» و«الكياسة الدبلوماسية». فيما ذهب آخرون إلى أننا باتهامنا ظلما وعدوانا انما «ندعوهم إلى مزيد من الحروب والويلات والدماء ونزيف الدماء، ونزايد على أهل الدار ولا نرحم أوضاعهم الصعبة في العراق».
فيما نحن كنا ولانزال ندعو إلى اخراج العراق من دوامة العنف، وكنا ولانزال نعتقد بأنه كان بالإمكان تحرير الشعب العراقي - إذا جاز لنا مثل هذا التعبير - على غير الطريقة الأميركية العسكريتارية، وكنا ولانزال نعتقد بأن الجنرالات والجيوش والغزوات وعسكرة الفضاءات والاستقواء بالأجنبي على أهل الدار لا يمكن له مطلقا أن يفرز «ديمقراطية» سليمة بل فوضى عارمة وضياعا وتمزقا وأخطارا أصعب بكثير من مخاطر الدكتاتورية والاستبداد المقيتين.
وانه لا حل للعراق ولا لفلسطين إلا بتسليم مفاتيح السلطة والسيادة إلى أهل الدار الرشيدين
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 386 - الجمعة 26 سبتمبر 2003م الموافق 30 رجب 1424هـ