اشترى أحد المستثمرين مبنى من عدة طوابق فقام بصيانته بشكل تكاد كلفته تفوق قيمة المبنى لو قام ببنائه من جديد... فسألته لو أنك اشتريت أرضا وبنيتها من جديد لما بلغت كلفتها قيمة هذه الصيانة.
أجاب على الفور: أعرف ذلك.
قلت: إذا كنت تعرف ذلك فلماذا فعلت ما هو غير منطقي؟
قال لسبب واحد هو أنني لا أود أن أبعث بأوراقي إلى (البلدية)، وأعيش عذاب الجري خلفها شهورا.
هذه الحكاية ذكرتني بمشروع «تطوير العمل العربي المشترك» الذي تقدمت به القيادة اليمنية كبديل لجامعة الدول العربية في اعتبارها جامعة فاشلة وإن لم تذكر ذلك مما دفعها لعدم البحث عن بديل.
إن هذا المشروع تقدمت به الجمهورية اليمنية على خلفية القرار رقم 812 الصادر عن قمتي عمان شرم الشيخ اللتين دعتا إلى قيام الدول العربية تقديم اقتراحاتها وتصوراتها لتطوير وتحديث منظومة العمل العربي المشترك. وقامت الجمهورية اليمنية بتقديم مشروع دستور «اتحاد للدول العربية»، الذي يعبر عن الخطوط العامة لرؤيتها لتفعيل وتطوير وترقية العمل العربي المشترك، وذلك من خلال إنشاء كيان عربي جديد يسمى «اتحاد الدول العربية».
إن هذا المشروع يجعل المواطن يتساءل: هل الوقت مناسب لتقديم هذا المشروع؟ هل الجامعة العربية اليوم في غرفة الإنعاش وأن مرضها ميئوس منه إلى درجة أن يتم إعداد كفنها ونعشها؟ وهل كانت دعوة الدول العربية أعضاء الجامعة في مؤتمري عمّان وشرم الشيخ تعني تصحيح مسار الجامعة الحالية «ترميما» أم «إعادة بناء»؟
إن عملية تطوير العمل العربي المشترك الذي جاء في المشروع اليمني يقوم على أنقاض جامعة الدول العربية الحالية أمر سيواجه الرفض فالوقت غير مناسب لعملية ضخمة يتم من خلالها إقامة مشروع طموح فلا النفسية العربية على استعداد هذه الأيام لعملية التغيير، ولا الذهنية العربية التقليدية تستوعب ما ورد في المشروع اليمني الذي يتضمن إقامة برلمان شعبي عربي ودستور جديد.
إن الآمال والطموح شيء وأرض الواقع الحالي للوطن العربي شيء آخر. فالوطن العربي يمر اليوم في منعطف تاريخي خطير إذ صارت الأنظمة العربية مسيّرة من قبل الدول الأوروبية ولم يعد تقرير مصيرها بيدها بعد اختلاق الولايات المتحدة عملية محاربة الإرهاب وتجفيف منابعه على خلفية اصطدامها مع «الأصولية» الإسلامية وتجنيد الأنظمة العربية لمحاربتها.
إن أقصى الطموح الذي يمكن تنفيذه وتحقيقه إن سمحت الظروف هو ترميم قوانين جامعة الدول العربية.
وإذا كان صاحبنا فضل ترميم بنائه الذي اشتراه حتى لا يصطدم مع «روتين البلدية» المزعج فإن أي مشروع جديد ليكون بديلا عن الجامعة العربية سيصطدم بـ 22 بلدية حسب اعتقادي وأهم هذه البلديات التي تقف في وجهه هي دولة المقر. فمصر يزعجها خروج الجامعة ومقرها من تحت مظلتها. ثم لأن أي مشروع جديد غير قائم بحاجة إلى موازنات خاصة وأن المشروع اليمني يتحدث عن صناديق مختلفة. وهذا أمر لا يشجع هذه الحكومات التي تمر بظروف خاصة مقارنة بمرحلة السبعينات إضافة إلى أن التهديد الأميركي القائم والوضع الفلسطيني المتردي والجرائم الإسرائيلية تجاه هذا الشعب العربي هناك. كل هذه وتلك لا تشجع حسب ظني على نجاح هذا المشروع خصوصا إذا ما أضفنا إلى ذلك ما تضمنه المشروع من جرعات غير مقبولة لدى مختلف الأنظمة العربية.
وإذا ما أضفنا إلى كل ذلك، الأوضاع غير المستقرة من الداخل، فالأنظمة العربية تعيش مرحلة مخاض جديدة وخطيرة. فالتدخل الأميركي بكل مساوئه ورداءته أفسح المجال أمام شعوب المنطقة للمطالبة بشجاعة أكبر أنظمتها بإعطائها حقوقها المشروعة، وشعر بعض الأنظمة العربية بضرورة التغيير قبل أن ينهد على رأسها السقف ولهذا أخذت، المبادرة بيدها فأدركت ضرورة القيام بإصلاحات مناسبة.
وكما يرى بعض المراقبين السياسيين إن الضرورة تستدعي قبل كل شيء قبل مناقشة مشروع ورقة الجمهورية اليمنية لتطوير العمل العربي المشترك إقامة مصالحة شاملة بين الشعوب العربية وأنظمتها وإقامة حياة ديمقراطية سليمة تعيد ثقة المواطن في أنظمته وتستعيد الأنظمة هيبتها من خلال قوة شعوبها والتمسك كل منهما بالآخر أمام الأنظمة الاميركية والأوروبية التي صارت تدرك مكامن ضعف هذه الأنظمة حتى أصبحت لا تعيرها أي انتباه أو تحسب لها أي حساب لإدراكها أنها في عزلة عن شعوبها.
صحيح أن بعض هذه الأنظمة العربية يحاول تصحيح الأوضاع على استحياء ومن خلال شعور بالخوف من مستقبل الديمقراطية التي ستجرها عليها خصوصا وأن هناك عناصر مستفيدة في هذه الأنظمة تحاول عرقلة عملية التطوير إذ ترى أنها ستفقد بذلك جزءا كبيرا من مكاسبها. لكن المراهنة على أن إرادة التغيير هي التي ستكسب الرهان في النهاية لأن الظروف الدولية عدا الظروف المحلية تفرض ذلك.
إن هناك شبه إجماع على أن ترميم جامعة الدول العربية أسهل من البناء الجديد خصوصا وأن المشكلة لا تكمن في الجامعة وقوانينها وإداراتها المتعاقبة بل تكمن في العزف المنفرد لكل نظام عربي على حدة من دون أن يستمع لإرشادات قائد الأوركسترا ما يجعل المقطوعات الموسيقية غير متجانسة.
وليت الاقتراح اليمني جاء لترميم الجامعة بوضع مقترحات وأفكار تساعد على إعطاء دور إيجابي لهذه الجامعة لا يحتاج إلى مزيد من الصرف. فالأنظمة العربية تتحسس من زيادة الكلفة حتى البلدان النفطية جعلهم الرفيق صدام «على الحديدة».
ويكفي تقوية دور الجامعة في عملية التدخل لإنهاء المشكلات المزمنة بين الأشقاء. فهذا الدور لو أمكنها أن تقوم به بشكل جاد وحقيقي لقلنا بركة «وكثر الله خيرها».
فإذا كانت دول مجلس التعاون على رغم ما بينها من تقارب في مختلف الوجوه ومع ذلك وبعد مرور أكثر من عشرين عاما على إقامته لم تستطع بعد أن توحد النقد الخليجي وأن تقيم سوقا مشتركة وأن تتكتل في كتلة اقتصادية قادرة على المواجهة والشراء الجماعي وخلق اتحاد عربي؟
وإذا كان مشروع الكابل البحري وإقامة محطة توليد تخدم كل دول الخليج لم يتم البدء فيه، فهل تريدهم أن ينجحوا في تجربة أكبر مثل العمل العربي المشترك وإقامة إتحاد عربي؟
أظن أن في ذلك جانبا كبيرا من الخيال والقفز فوق سور الواقع لأن الانتقال من الجامعة العربية إلى اتحاد للدول العربية مع ما طرحه المشروع من آليات فيه جرعة لا تتناسب والوضع الحالي خصوصا إذا فكر اليمن إقامته تحت مظلتها.
ولهذا يتمنى المرء أن يراجع اليمنيون مشروعهم ويخففوا من «البهارات» التي لا تستسيغها الأنظمة العربية وتقديم مقترحات واقعية لتفعيل دور جامعة الدول العربية الحالية ليصبح المستحيل ممكنا
العدد 385 - الخميس 25 سبتمبر 2003م الموافق 29 رجب 1424هـ