العدد 385 - الخميس 25 سبتمبر 2003م الموافق 29 رجب 1424هـ

الهوى بين المثقف والسلطة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في الفترة الواقعة بين خلافة هارون الرشيد (توفي 391 هـ/808م) ومقتل الخليفة المتوكل (الذي أظهر الميل الى أهل السنة) في العام 742 هـ (168م) اختلطت الكثير من المفاهيم، وكادت الهوية الإسلامية تضيع من كثرة الفتوحات وازدحام بغداد بالوافدين اليها والانفتاح الثقافي الذي عصف بالدولة واستدرجها إلى التدخل في شئون المذاهب والطوائف والقضاء.

وبسبب تلك الفترة القلقة سادت الكثير من المفردات والمصطلحات التي فرضت على الأئمة والفقهاء التعاطي معها إما للرد عليها أو لاحتواء عناصرها غير المنسجمة مع روح الاسلام. ولاشك في ان الدفاع الذي مارسه العلماء لتوضيح صورة الاسلام وازالة الغموض والرد على الأسئلة فتح آفاق الفقه ودفعه خطوات متقدمة إلى التطور فأصبح الفقه أقرب الى الفلسفة وباتت مدارسه تقوم على مجموعة قواعد أصولية اطلق عليها لاحقا «فلسفة الفقه» لتمييزها عن «فقه الفلسفة».

في هذه الفضاءات انتعشت الفلسفة الاسلامية وازدهرت وكانت لها معاركها الكلامية مع المعتزلة التي طرحت فرقها كمية من الأسئلة مست احيانا جوهر التوحيد واحيانا أخرى طالت الصفات و«أسماء الله الحسنى». كانت المعركة حامية ومن ينتصر فيها مرة ينتصر في كل الفترات. لذلك اختلطت المدارس بالمفاهيم والاسماء بالفرق والفرق بالشيوخ، وضاعت احيانا الاصول فلم يعد بالامكان التمييز بين الاقوال نظرا لكثرتها. وأسهم ادعاء بعض الجهلاء بمعرفتها في زيادة الغموض والبلبة على رغم ان المعارك يمكن تلخيصها في ثلاثة أسئلة كبرى تتفرع عنها مئات المسائل والتفصيلات.

السؤال الأول: من هو وما صفاته؟ والثاني: من هو المسلم وما التعريف النهائي لهويته؟ والسؤال الثالث: يتعلق بالبدء، فمن اين جاء الواحد واذا كان الواحد «لم يلد ولم يولد» فمن أين جاء التكاثر أو كيف أتت الموجودات اذا كان الأول لم ينقسم؟

كانت الأسئلة صعبة على جيل الأئمة والعلماء والفقهاء الذي جاء بعد المئة الأولى من نزول الدعوة. مثل هذه الأسئلة لم تطرح في حُقب الجيل الأول من الصحابة وأصحاب الصحابة. بدأت الأسئلة في معناها الفلسفي (لا الوجداني أو الكلامي) في المئة الثانية من الهجرة الأمر الذي أضاف على الأئمة والعلماء والفقهاء مشقة جديدة لم تخطر على بال الجيل الأول (المؤسس).

في هذه المناخات اختلطت الكثير من الأجوبة بالأسئلة، ونسبت أسئلة إلى بعض الفرق وأجوبة فرق إلى فرق أخرى. فالكثرة في تلك الفترة عطلت امكانات التمييز والفرز والنقاش الهادئ الامر الذي يؤكد مدى خطورة الوضع والضغوط النفسية - السياسية التي عانى منها الأئمة والعلماء.

هذا الاختلاط أدى إلى تسرب مجموعة متناقضات إلى كتابات التاريخ والكتب التي تخصصت في دراسة تاريخ الفرق وشرح افكارها. ففي كتب الملل والنحل هناك الكثير من الاختلاط - كما ذكرنا سابقا - وهذا بدوره اسهم في تداخل مفاهيم الفرق وتعارضها.

مثلا يقول الفخري في كتابه «تلخيص البيان» ان العطار البصري (أبي الـمُنتمر معمر بن عمرو) كان مولى بني سليم وانفردت فرقته بالقول بجواز موجودات لا نهاية لها، وان الله لا يحصيها ولا لها عدد بمقدار معلوم (ص39). وينسب الفخري إلى العطار انه كان يقول: ان الأشياء تختلف بمعان فيها وان تلك المعاني تختلف بمعان أخر فيها، وتلك المعاني تختلف بمعان أخر... وهكذا بلا نهاية.

هذا الكلام نجده مكررا في الكثير من كتابات الملل والنحل التي سبقت الفخري واقتبس الفخري كتابه منها. فابن حزم مثلا ينسب كلام «الموجودات» و«المعاني» إلى العطارية نفسها بينما ينسبها الشهرستاني إلى الـمَعْمرية (أصحاب معمر بن عباد السليمي).

الامر نفسه تكرر مع «بشر» فاختلط الاسم بالفرقة نظرا لتشابه الاسم الأول (بشر) بين فرقة ابن المعتمر وابن غياث. فابن النديم والشهرستاني والاشعري والفخري يتحدثون في مقالاتهم عن البِشْرية والمقصود بها فرقة بشر بن المعتمر وأصحابه بينما نجد ابن حزم يتحدث عن البشرية ويقصد بها بشر بن غياث المريسي. وهناك فارق بين «البشرية» و«المريسية» على رغم انهما عاصرتا الفترة نفسها تقريبا وتنتميان في النهاية الى ما تم التعارف عليه بفرق المعتزلة.

إلا ان المريسي في ترتيب الوفيات توفي قبل المعتمر بثماني سنوات وشهد في عصره فتنة «خلق القرآن».

توفي المريسي سنة 812 هجرية (338م) وهو من شيوخ الاعتزال وكان على رأس الفرقة المريسية القائلة بالارجاء وتنسب افكارها اليه. كان المريسي على مذهب الاعتزال وعلى رغم ذلك لم يمنع الامر من ان يأخذ الفقه عن القاضي الحنفي ابي يوسف صاحب كتاب «الخراج» الذي وضعه بناء على طلب من الخليفة هارن الرشيد.

أخذ المريسي الفقه اذا عن صاحب كتاب «الخراج» ولكنه عاد واخذ برأي الجهمية (نسبة الى جَهْم)، وقال بالارجاء الامر الذي ادى الى اختلافه مع دولة الرشيد وتعرض للاذى في تلك الفترة قبل ان يعاد إليه اعتباره بعد رحيل الرشيد وابنه الأمين.

ويقال ان المريسي (بشر بن غياث) هو ابن أبي كريمة (عبدالرحمن المريسي) وقيل ايضا - وهنا بيت القصيد - ان والده كان يهوديا وهو من أهل بغداد، وقيل انه من الموالي وكان جده مولى يزيد بن الخطاب.

هذا الغموض في الاصل والفصل والحسب والنسب يؤكد مجددا طبيعة الظروف التي كانت تمر بها الدولة العباسية آنذاك والعوامل المختلفة التي اسهمت في خلط المسائل وتداخل اسماء الفرق بأقوالها. فالمريسي جاء من الموالي ويقال ان والده من يهود بغداد وقد أخذ الفقه عن القاضي الحنفي صاحب كتاب «الخراج» وصاحب الخليفة، ثم انقلب عليه ومال الى الجهمية الامر الذي اثار حفيظة هارون الرشيد. ومجموع هذه «الانقلابات» تشير الى حال القلق والاضطراب التي كان يمر بها المثقف في علاقته مع السلطة والمعارضة وتطور تلك العلاقة بين المعارضة والسلطة وصولا الى سيطرة المعتزلة على أجهزة الدولة بدءا من نهاية عهد الرشيد ومقتل الأمين لمصلحة ولاية شقيقه المأمون.

كتب المريسي كثيرا وتقلب كثيرا واساء احيانا إلى عقيدة التوحيد الامر الذي دفع الدرامي احد كبار الفقهاء في عصره إلى الرد عليه في كتاب معروف باسم «النقض على بشر المريسي».

توفي المريسي في السنة التي توفي فيها المأمون في وقت كانت معركة «خلق القرآن» حامية تعرض خلالها العلماء والفقهاء للظلم والامتحان فاضطربت الحال وبات من الصعب فهم الصواب من الخطأ في ظل التهديد والوعيد.

صحيح أن عهد المعتصم أكثر قساوة من المأمون إلا ان الأخير يعتبر المؤسس الحقيقي للفتنة والمعتصم ورثها عنه وزاد عليها.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 385 - الخميس 25 سبتمبر 2003م الموافق 29 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً