طابور هنا وطابور هناك، يبدأ اليوم بالنسبة إلى الكثير من العراقيين بطابور دخول الحمام وينتهي بطابور آخر للنوم وفقا لساعات برنامج قطع التيار الكهربائي في قيظ الصيف اللهاب.
كان التخلص من صدام حسين نعمة كبيرة بالنسبة إلى معظم العراقيين، ولكن العراقيين وجدوا أنفسهم بعد الخلاص من صدام في وضع أشبه بمن يخفف وطأة الحرّ على نفسه بتحريك يده ليس إلا. الآن ادركوا ان كابوس الخلاص من الطاغية ليس معناه الدخول إلى حديقة ورود.
والديمقراطية التي طالما حلموا بها لم تكن سوى وُلُوجهم إلى حياة مليئة بالأزمات التي تفرض على العراقي انصرافا جديا لتأمين أبسط مستلزمات الحياة الأساسية.
يسأل محمد جهاد علي (34 سنة) وهو ينتظم بسيارته في طابور طويل للحصول على النفط من محطة تعبئة للوقود في بغداد: «هل الديمقراطية التي وعدنا بها هذه؟». ويضيف: «أقضي يومين في الأسبوع في مثل هذا الطابور لتعبئة سيارتي بالوقود».
بالنسبة إلى عباس راضي (سائق التاكسي) أصبح له الوقوف في طوابير السيارات للحصول على النفط مهنة بدل مهنته، فهو يعبئ سيارته يوميا بالوقود ليبيعه على قارعة الطريق مستفيدا من فارق السعر، اذا انه يشتري الليتر منه من محطة التعبئة بـ 02 دينارا ليبيعه بما بين (001 و002 دينار). يقول عباس انه احيانا يعبئ سيارته بالوقود مرتين من محطات التعبئة بعد ان يقف في الطوابير». ويضيف: «العمل في السيارة (التاكسي) مهنة أصبحت محفوفة بالمخاطر فقد تستوقفك عصابة على حاجز طريق بأسلحة رشاشة وتطلب منك تسليم السيارة التي بحوزتك أو قد يصعد معك راكبون فيسلبونك تحت وطأة تهديد السلاح السيارة أو على الاقل ما تحمله من نقود».
جهد مضن لتوفير الاحتياجات اليومية للعائلة يجعل الشغل الشاغل لمعظم المواطنين العراقيين الانتظام في طوابير عشوائية. يتوزع أفراد العائلة على الطوابير المختلفة لتأمين احتياجاتهم.
جعفر صادق (59 سنة) يقول انه يتوزع مع اولاده الأربعة على الطوابير أحدهم يذهب الى الوقوف في الطابور لشراء الثلج الذي أصبح شحيحا لزيادة الطلب عليه ونقصه بسبب انقطاع الكهرباء المتواصل واثنان يذهبان الى محطة الوقود لا للحصول على النفط للسيارة بل لجلب قنينة غاز الطبخ في حين أجبر على قضاء يوم بكامله من الصباح الباكر أمام أحد المصارف القليلة التي تتعامل مع فئة العشرة آلاف دينار و«أنتظم في طابور طويل لعل وعسى ان اصل إلى ذلك الشباك لكي يتحقق لي حسن الطالع لذلك اليوم بصرف مبلغ خمسين آلف دينار التي تعد مصروف المنزل لمدة اسبوع لكي ابدأ بعدها مارثون طابور جديد ومنذ الصباح الباكر لعلي احصل على مصروف الأسبوع الآخر!».
ربما صادق أخفى جزءا من الحقيقة ويرجَّح انه امتهن هو واولاده الوقوف في الطوابير. ففي ظل البطالة المتزايدة صار الكثير من العراقيين يمارسون هذه المهنة مستفيدين من الأزمات ومن فارق السعر ما بين الوقوف في الطابور أو الحصول على السلع من دون انتظار وبلا وقوف في الطابور. وعلى سبيل المثال هناك من يتردد على المصارف القليلة التي تبدّل العملة الورقية من فئة عشرة آلاف دينار بالفئة الأصغر وهي 052 دينارا. ليتم الاستبدال بفئة عشرة الاف دينار خارج المصارف مبلغ 0007 دينار من الفئة الأصغر. طبعا هذه التجارة انحسرت حاليا وقلت ارباحها مع اقتراب موعد ابدال العملة العراقية باخرى جديدة اعتبارا من منتصف الشهر المقبل. أما غاز الطبخ فيمكن الحصول عليه من محطات بيع الوقود بمبلغ 005 دينار للقنينة وتباع خارج هذه المحطات بمبلغ 0053 دينار.
اتخاذ البعض مهنة الطوابير كان سببا لتفاقم الأزمات واتساع الطوابير وتمدد طولها. وكثيرا ما ولّد ذلك مشاجرة بين الساعين لحصول حاجاتهم عبر الوقوف في هذه الطوابير وأولئك الذين اتخذوا من هذه الطوابير مصدرا للرزق ولاسيما مع توتر الأعصاب نتيجة قلة النوم بسبب الكهرباء التي تأتي ساعتين لتطفأ أربع ساعات وسط حرارة تجاوزت 75 درجة مئوية.
ولكن المشكلة تبدو أكثر تعقيدا في حال الوقوف في طابور طويل امام احدى الصيدليات الحكومية التي فتحت بحماية قوات الاحتلال، وحين يصل إلى شباك الصيدلية ليفاجأ بعدم وجود الدواء المعين.
وعندما يريد المواطن المزيد من الاستفسار من الصيادلة، كثيرا ما يجد امامه اجابة محددة هذا ما وصلنا من قوات الاحتلال، اعترض لديهم إذا شئت!
وتسرد «أم علي» قصتها مع وليدها ذي الأسابيع الأربعة عشر ومراجعتها اكثر من مستشفى، تصرف فيه ساعات في طوابير امام بوابة الطبيب والاختصاصيين منهم بالذات، الذين تثقل مراجعة عياداتهم الخاصة موازنة مثل هذه السيدة التي فقد زوجها عمله بسبب حل الجيش العراقي فأجبرت على العمل هي وابنها الأكبر «علي» في اعمال بأجور يومية وتركها العمل والانتظام في طوابير المستشفيات يعني حرمان عائلتها من بعض قوت يومهم، وتؤكد «أم علي» حقيقة بات الكثيرون من العراقيين يكررونها، ماذا استفدنا من سقوط نظام صدام وهل هذه هي الديمقراطية الموعودين بها؟!
ويعتقد أحمد عبدالرضا ان الطوابير وسواها من الأزمات التي يشهدها العراق هي مؤقتة وهي لا تعني شيئا مقابل الانجاز الذي تحقق المتمثل بالخلاص من كابوس صدام الذي تحكم في حياة العراقيين في نومهم وصحوهم... ويضيف أحمد: «ما قيمة هذه الازمات امام بناء مستقبل آخر للشعب العراقي... وان عدة شهور من الأزمات لا تعني شيئا في عمر الشعوب من أجل بناء مستقبلها».
في المقابل يعبر جابر الجابري عن خشيته من ان يتحول المؤقت الى دائم، ويقول: «يبدو ان الديمقراطية الموعودين بها صارت في طوابير الأخذ والشد بين البيئة السياسية العراقية الجديدة وأغراض قوة الاحتلال، السيف والخصم والحكم، فضلا عن تأثيرات إقليمية ودولية هي الأخرى تفرض على هذه الديمقراطية ان تقف في طابورها».
على اي حال مهما يكن المستقبل، ففي واقع الحال اليوم يجد العراقيون أنفسهم يقضون حياتهم في طوابير متعددة ويعيشون في ذات ضيق اليد التي طالما تذرع النظام السابق بأنها مؤقتة ومرهونة بهذه الحرب أو تلك ومن ثم بالحصار والعقوبات إلى ان تسربت السنون وحال العراقيين من سيئ إلى أسوأ. وهاهم اليوم ينظرون إلى طوابير زمن الاحتلال بأنها زاوية للحكاية ذاتها ولكن بلغة جديدة عنوانها: «الحرية الجديدة» وتطبيقاتها في «طوابير طويلة متكررة»
العدد 384 - الأربعاء 24 سبتمبر 2003م الموافق 28 رجب 1424هـ