في حين ترى مجموعة من المحللين السياسيين أن معركة الرئاسة ستنحصر في نهاية المطاف بين الرئيس الحالي، عبدالعزيز بوتفليقة ورئيس وزرائه المستقيل، علي بن فليس - من هنا تفهم اذن حدة الصراع القائم اليوم للسيطرة على حزب «جبهة التحرير الوطني» الجزائرية التي يتولى أمانتها العامة هذا الأخير - يؤكد فريق آخر من هؤلاء المحللين أن عدد المتدافعين امام أبواب «قصر المرادية» سيفوق بكثير هذه المرة ما هو ظاهر حتى الآن، وأنه من السابق لأوانه بناء أي تقييم على أساس ما تحاول بعض الأوساط المعنية بصناعة القرار والرؤساء الايحاء به في هذه المرحلة الأولية والسباق بهدف المزيد من التشويش وخلط الأوراق. الا ان مسألة وحيدة باتت محسومة وهي ان الرئيس العتيد المقبل سيكون للمرة الثانية مدنيا وليس عسكريا، وذلك انسجاما مع طبيعة التحولات الخارجية التي تفرض نفسها على الواقع السياسي الجزائري من جهة، ومن جهة أخرى التفافا على مطالب داخلية يمكن ان تبرز في اللحظات الأخيرة وتربك الجميع.
في الثاني من الشهر الجاري قام الرئيس بوتفليقة يرافقه صديقه القديم الجنرال المتقاعد «محمد عطايليه» بزيارة سرية لمدينة «باتنة» ليقابل سلفه الرئيس الأمين زروال في محاولة لإقناعه مع من يمثل داخل الجيش من تيار بالوقوف الى جانبه في التجديد لولاية ثانية. وفي حضور متقاعد آخر - حرص زروال على دعوته ليكون شاهدا على هذا اللقاء والذي يحظى باحترام وتقدير الجميع، وهو «عبدالله بلهويشات» زميل بوتفليقة في مجلس قيادة الثورة في سنوات السبعينات - نصح زروال ضيفه بالتخفيف من حدة هجومه التي زادت عن اللزوم، بحسب رأيه - وضرورة تهدئة اللعبة التي فيما اذا استمرت على هذا النحو التصعيدي فهي لن تكون البتة في مصلحته. الأمر الذي لم يتقبله الرئيس الجزائري الذي عاد إلى تذكير مستضيفه بأنه قد أتى اليه طالبا دعمه وليس مناقشة اسلوبه بالتهديد لخصومه السياسيين. عند ذلك خرج بلهويشات، المعروف بصواب رؤيته وهدوئه - وهو الذي اقنع الجيش في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، بالافراج عن الرئيس السابق أحمد بن بلله - عن صمته المراقب ليقول لبوتفليقة: «السيد الرئيس، من الافضل لك حسبما اعتقد وأراه صالحا لبلدي الجزائر ان تصرف النظر عن ترشيحك للانتخابات المقبلة»، مضيفا: «وان تعلم ايها الرفيق القديم أن السيد علي بن فليس لن يكون منافسك الاوحد في المعركة». رسالة فهم بوتفليقة معناها جيدا وهو ابن النظام. لكن بدلا من ان يتقبلها بدبلوماسية ويتجنب استعداء محاوريه، وقف مودعا قائلا: «هذا قراري النهائي ولن أتراجع عنه، كما ان لدي من الحلفاء اكثر بكثير مما تتوقعون».
يستنتج مما تقدم ومن خلاصة اللقاء الذي انتهى بحسب المعلومات المستقاة من مصادر جزائرية مطلعة الى فراق بارد، أن تيارا مهما داخل الجيش، وان لم يحسم أمره بعد لناحية اختيار مرشحه، لا يتقبل الطريقة التي ينتهجها بوتفليقة في إدارة معركته والتي فسرت بأنها مزيج من الاستفزاز والتحدي لمشاعر الكثيرين من أصحاب القرار في البلاد أو المشاركين فيه، كما يفهم بوضوح تام أن رئيس الجمهورية الحالي لن يكون بالتأكيد مرشح هذا التيار.
المتنافسون المكشوفون...
اذا كان هناك كما سبق وذكرنا انه هنالك مسألة واحدة هي المحسومة في هذا السباق الرئاسي الذي انطلق مبكرا ولم ينتظر صفارة الحكم والمتخلصة في انتخاب رئيس مدني في ابريل/ نيسان 4002، كما هو مقرر، الا انه هنالك الكثير من العوامل ستتداخل في الاسابيع المقبلة لتغير وجه المساجلات القائمة حاليا. على أية حال ينبغي الاشارة الى انه على رغم كل ما قيل ويقال عن المؤسسة العسكرية فانها اثبتت قدرتها على قراءة، المتغيرات السياسية الخارجية والتعاطي معها. الدليل على ذلك عدم اتخاذ حتى الآن موقف معلن أو صريح بعض الشيء من بوتفليقة.
حتى اللحظة، يمكن القول ان عبدالعزيز بوتفليقة هو الأوفر حظا، وخصوصا بعد النقاط التي سجلها ميدانيا في الايام الأخيرة داخل جبهة التحرير الوطني، كذلك نجاحه في خلق حركة تصحيحية يقودها وزير خارجيته عبدالعزيز بلخادم وسفير الجزائر في طهران، عبدالقادر حجار ايضا، من خلال ممارسة ضغوطات باتجاهات عدة على خصومه، أبرزها دعوة رئيس الغرفة الأولى للبرلمان كريم يونس من المؤيدين لبن فليس - إلى الاستقالة من منصبه طوعا وإلا سيعمد قريبا إلى اتخاذ قراربحل البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية مسبقة تأتي بغالبية تكون موالية له عشية الانتخابات وجاءت هذه الدعوة بعدما علم بوتفليقة ان اكثر من 51 سفارة غربية طلبت منذ يوم الثلثاء الماضي مضمون الخطاب الرسمي الذي ألقاه يونس. من ناحية اخرى وفي التقييم نفسه لخطوات الرئيس الجزائري فان هذا الأخير استطاع في الايام القليلة الماضية احداث اختراقات لا يستهان بها في بعض الولايات، والتي لم تكن محسوبة عليه، ذلك من خلال الجولات الميدانية التي قام بها واعلن فيها تنفيذ الكثير من المشروعات الحيوية، وصرف مساعدات طارئة. وينتظر بوتفليقة نتائج الاتصالات التي يجريها مستشاره لشئون ملف القبائل «رشيد عيسات» بدوره منحدر منها، مع قادة العروش ليوظفها في مسار معركته الدائرة.
وفي اطار «المنافسين المكشوفين» يحاول امين عام حزب جبهة التحرير علي بن فليس، الظهور بمظهر العقبة الرئيسية في وجه اعادة انتخاب بوتفليقة من خلال طرح الورقة تلو الاخرى. كذلك محاولة نصب الأفخاخ له ودفعه إلى الوقوع فيها، كما حصل مع اقالة سبعة وزراء في الحكومة الحالية من المؤيدين والمقربين منه، ووصمه بالتالي بوصمة، الفردية التي لا تخدم اصول اللعبة الديمقراطية ولا حقّ الاختلاف في الرأي وتصفية الحسابات ولو كان ذلك في غير مصلحة الوطن. لكن الاختراقات التي حققها بوتفليقة في الآونة الأخيرة غطت بعض الشيء على هذه الناحية وأضعفت مواقع بن فليس، كما أدت الى إرباكه. وتفيد المصادر العليمة ان هذا الأخير لم يكن مرشحا جديا للرئاسة، بل يمكن اعتباره بمثابة «أرنب السباق» الذي يراد من خلاله تسريع وتيرة الجري لانهاك الرئيس الحالي في المراحل الأولى كذلك كشف أوراقه وتحالفاته، لذلك تتوقع المصادر عينها حدوث تغييرات ذات مغزى في الايام القليلة المقبلة تبعد بن فليس عن الخط الأول.
أما المرشح الثاني ضمن هذه المجموعة المذكورة والذي تعتبره العواصم الغربية المهتمة بالشأن الجزائري الاكثر جدية في هذا السباق فهو «احمد الطالب الابراهيمي» وزير الخارجية السابق، والذي يحظى باحترام شديد في الداخل كونه ينحدر من عائلة مجاهدين وفقهاء، اضافة إلى كونه بقي نقيّا طوال فترة تعاطيه العمل السياسي، اذ لم يسجل ولا مرة واحدة انه تورط في عمليات مشبوهة ولا استفاد من «فضائل» النظام كغيره، ناهيك عن اعتباره مدافعا عن الديمقراطية، والأهم انه احتفظ بصداقاته مع المؤسسة العسكرية، على رغم اتهام جناح منها له، والمتمثل في الجنرال خالد نزار، بتعاطفه مع «جبهة الانقاذ الاسلامية» والتيارات الدينية المعتدلة الاخرى لذلك يعتبر الابراهيمي، المعروف بعلاقاته المتميزة سواء في الجوار المغاربي، أو في منطقة المشرق العربي، المرشح القوي اذا ما تراجعت فرص بوتفليقة، واذا ما قررت الانقاذ التي دخلت أخيرا على خط اللعبة السياسية عبر اعلان زعيمها «عباس مدني» الموجود حاليا في ماليزيا لتلقي العلاج، واذ هنالك تواجد لا بأس به للجالية الجزائرية عبر موقع «اسلام أون لاين» على الانترنت، مبادرته لانهاء العنف في الجزائر والتي توقعت في الوقت نفسه «نهاية قريبة» للنظام ما اعتبره المقربون من بوتفليقة خروجا على «التفاهم السري» بين هما والذي تم بموجبه تسهيل خروج مدني من الجزائر عبر ترتيب مع الرئيس الماليزي الذي زار الجزائر قبل أيام من سفر زعيم الجبهة ومع دولة قطر التي مر عبرها وحصل على المساعدة المطلوبة من بوتفليقة صديق اميرها، وتشير بعض المصادر الى ان الرئيس الجزائري يمكن ان يدعم ترشيح الابراهيمي في حال تأكد له ان التجديد لولاية ثانية بات «أمرا مستبعدا» لاعتبارات شتى. لكن هذه الفرصة لاتزال في غير الوارد حتى الآن، وخصوصا ان الامور لن تتضح بما فيه الكفاية قبل مطلع 4002.
يبقى المرشح الثالث اي الشيخ عبدالله جاب الله الذي سبق وطرح اسمه رئيس الاركان الجنرال محمد العماري مثالا على حرية الانتخاب والانحناء امام ارادة الشعب، في المقابلة التي اجرتها معه مجلة «لوبوان» الاسبوعية الفرنسية منذ أشهر والتي استهدفت بحسب المراقبين تمرير رسائل للمسئولين الفرنسيين، الذين بدأوا رهاناتهم مع زيارة كل من بن فليس وبوتفليقة للعاصمة الفرنسية واجتماعهما برئيسها جاك شيراك، لكن تداول اسمه في بورصة الرئاسة كان مجرد «بالون اختبار» لحصد ردود الفعل من قبل الجيش، وعلى رغم هذا التصور، فان جاب الله مصمم على الاستمرار في ترشيحه نفسه حتى النهاية. ويراهن بذلك، على مساندة التيارات الاسلامية الأخرى، في طليعتها جزء من «حَمَس» إذ بدأ يخط طريقا مستقلا الى حد ما بعد غياب قائده الشيخ محفوظ نحناح ويمكن لترشيح جاب الله ان يؤثر في مسار الانتخابات الرئاسية ونتائجها اذا ما اشتد التنافس بين بوتفليقة ومرشح آخر يمكن ان يظهر في الساعات الأخيرة بحيث ان حزب جاب الله سيجير اصواته عندها لمن يتفق معه على عدد من المقاعد الوزارية، وبالتالي يمكن ان يرجح كفة الميزان.
... والمستورون منهم
في هذا الاطار يتم منذ الآن تداول اسماء كثيرة، يمكن ان تشكل ما يعرف بتسمية «الأوت سايدرز» أي «فلتات الشوط» بلغة المراهنين في السباقات. ويأتي في طليعة هؤلاء «مولود حمروش» رئيس وزراء ما عُرِف عنها بحكومة «الاصلاحيين» في نهاية عهد الرئيس الشاذلي من جديد والتي ذهبت معه بعد ان اعتبرها الجيش فتحت الطريق امام «جبهة الإنقاذ الاسلامية» في انتخابات 1991. لكن عودة حمروش تبقى محتملة، كون هذا الاخير المسئول عن البروتوكول في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين وابن احد كبار المجاهدين في حرب التحرير، ابن النظام السياسي والمؤسسة العسكرية تحديدا. من جهة أخرى لاتزال بعض الأوساط الغربية تعترف له بالدور الانفتاحي الذي دفع الجزائر لسلوكه خلال فترة رئاسته للوزراء.
ومن الاسماء الأخرى المطروحة في الكواليس باعتبارها مخرجا بديلا، اسم رضا مالك الشخصية التاريخية التي تحظى هي الأخرى باحترام اوساط عدة، كذلك بثقة قيادة الجيش، ولمالك شبكة مهمة من العلاقات في جميع الاوساط وعلى جميع المستويات، لكن العائق الوحيد في وجه صعوده إلى الرئاسة تقدمه في السن، مع ذلك يبقى مرشح التسوية في حال وصل الجميع إلى الطريق المسدود سياسيا، وخصوصا ان الجيش ليس مستعدا البتة للجوء لاستخدام ورقة «الانقلاب الابيض».
وتعمد بعض المراجع المقربة من الجيش الى تداول اسم سيد احمد غزالي رئيس الوزراء في أول حكومة شكلها الأمين زروال والذي ادار لفترة شركة «سوناطراك» وأقام علاقات جيدة مع الشركات النفطية الاميركية. لكن غزالي يعتبر الاضعف في هذه المجموعة لاعتبارات عدة، أهمها الخصومات الكثيرة في الوسط السياسي الجزائري، زيادة عن اثبات عدم قدرته على مواكبة مرحلة دقيقة كالتي تمر بها الجزائر والمنطقة في هذه المرحلة. وتستبعد الاوساط المطلعة ان يتمكن غزالي من الحصول على غالبية ولو بسيطة تؤيد ترشيحه في حال من الاحوال، اضافة الى ان الاجماع عليه يبقى أمرا مستحيلا.
ومن بين هذا الفريق من «الأوت سايدرز» يبرز اسم «أحمد أويحيى» رئيس الوزراء الحالي المعروف عنه تنفيذه الأوامر الصادرة اليه من دون نقاش حتى ولو كانت خاطئة، أو حتى مناقضة لأبسط حقوق الانسان، فرئيس «حزب التجمع الوطني» الذي أنشأته الأجهزة ليكون بديلا عن حزب جبهة التحرير، والذي تصل كتلته في البرلمان الى 05 نائبا، من اصل المجموع 493 بدأ مناوراته واللعب على التناقض منذ الآن، ففي حين يتقارب بشكل ملفت مع «الاتحاد العام للعمال الجزائريين» وأمينه العام «سيدي سعيد» عدو بوتفليقة ويلبي بعض مطالبه، يقف من جهة أخرى وبحزم ضد بن فليس وجماعته، ويدعم بقوة إقالة وزرائه من حكومته، فان اويحيى انما يمهد بحسب بعض المراجع، الطريق التي تكفل له ان يصبح مرشح تسوية هو الآخر اذا ما تعقدت الامور مجبرا بوتفليقة على دعمه بعد ان سلّفه مؤخرا عدة مواقف في وجه خصومه، ويجب الا يغرب عن بال احد ان احمد أويحى هو - بحسب المعلومات المتقاطعة - معن صنع جهاز الأمن العسكري، و تحديدا قائده «توفيق مديان».
العدد 384 - الأربعاء 24 سبتمبر 2003م الموافق 28 رجب 1424هـ