دورة «قمة دبي 3002» التي يشرف عليها «البنك الدولي» و«صندوق النقد» ذكّرت مجددا بمقولات انتعشت في تسعينات القرن الماضي واعتبرها البعض وصفة «سحرية» تزيل كل البقع وتسهم في تطوير الاقتصاد وتحديث التنمية والنمو.a ومن تلك المقولات نصائح اميركية متتالية تركزت على «فصل السياسة عن الاقتصاد» وتفكيك القطاع العام وترك السيادة لنظرية «السوق» وغيرها من زوايا تتعلق بالتعرفة الجمركية ووقف الدعم للسلع الغذائية والزراعة وغيرها من امور تتعلق بالحدّ من تدخل الدولة في شئون الانتاج والتوجيه.
كل هذه الامور نصحت بها الولايات المتحدة «دول العالم» تفسيرا لعوامل انهيار الاتحاد السوفياتي. وشرحت للدول الطالبة للعلم والتطور ان اساس النمو والتنمية هو فتح السوق ومنع الدولة من التدخل في شئون الاقتصاد. وبعد التجربة تبين بعد مرور اكثر من 51 عاما أن نسبة الفقر في العالم زادت عن السابق، كذلك ارتفعت نسبة ثروات الاغنياء وتركزت الرساميل اكثر في قلة قليلة من الدول. باختصار الفجوة بين الاغنياء والفقراء اتسعت، كذلك اتسعت الفجوة وبالنسبة عينها بين الدول الغنية والدول الفقيرة.
والامر نفسه ينطبق على ارتفاع نسبة الامية والعاطلين عن العمل واتساع مساحة الجوع وكذلك الامراض. مرض الايدز (فقدان المناعة) وحده جرف اكثر من 02 مليون ضحية في العقدين الاخيرين وهناك لا أقل من 56 مليون اصابة في العالم معظمها تتركز في الدول الافريقية الواقعة تحت خط الصحراء الكبرى.
إذا النصائح أعطت نتائج عكس التوقعات في وقت تتجه الولايات المتحدة الى اتباع سياسة معاكسة تماما لها تذرعا بضربة 11 سبتمبر/ ايلول 1002. فاميركا مثلا لا تفصل السياسة عن الاقتصاد وتتدخل في توجيه شركات الطاقة وهيئات الاستثمار وتدعم المزارعين وتضع تعرفة جمركية لحماية انتاجها المحلي من المضاربات الاوروبية واليابانية والصينية.
المسألة إذا لها صلة بالمصالح لا النظريات والتنظيرات الاكاديمية. والمصالح هي في النهاية تحدد النظرية وتقرر السياسة وليس العكس. فاميركا حين وجدت ان مصلحتها تقضي بدعم صدام حسين في فترة حربه على ايران لم تتردد في اعطاء اشارة خضراء إلى كل المستثمرين والمصارف بفتح اعتمادات للعراق يستطيع استخدامها لشراء ما يريد من مواد ومعدات يستفيد منها لتلبية حاجات الحرب. واميركا حين وجدت ان مصلحتها تقتضي التعاون مع الصين الشعبية (اكثر من مليار نسمة) لتطويق الاتحاد السوفياتي في السبعينات لم تتردد في طرد الصين الوطنية (تايوان) من مجلس الأمن ونزع حق النقض (الفيتو) منها واعطاء مقعدها للصين الكبرى. فاميركا لا تفصل السياسة عن الاقتصاد حين تفرض مصلحتها ذلك بل ان السياسة الاميركية هي سياسة اقتصادية سواء في الدعم والاستثمار والتوظيف والتسهيل والتعطيل. فالدولة في الولايات المتحدة تشرف على توجيه السياسات الاقتصادية وهي تخطط وترسم معالم الطريق لكل الشركات والمصارف والمؤسسات. حتى قرارات المساعدات والمعونات السنوية تتحكم فيها السياسة على الاقتصاد واحيانا تتغلب فيها السياسة (الانتخابات المحلية والرئاسية) على المصالح العليا وتحديدا في مسألة الانحياز المطلق إلى دولة «اسرائيل».
الامر نفسه يمكن سحبه على السياسة التدخلية للدولة في توجيه حركة الرساميل والاستثمارات، فهي تمنع الشركات من التعامل مع ايران وكوريا الشمالية والسودان واحيانا سورية وتقاضيها اذا خالفت إرادة البيت الابيض. وكذلك هي تعطي «كلمة السر» لكل المؤسسات بوقف التعاون او تشجيعه لحسابات سياسية لا صلة لها بحرية الاقتصاد وتنافس السوق.
المسألة إذا ليست نظريات وانما هي مجرد مصالح مرتبطة بالسياسة أولا ومن ثم بالاقتصاد ثانيا.
حتى أن الامر نفسه ينطبق على شتى القطاعات الداخلية. فحين تتدخل الدول (البنك المركزي) في رفع الفائدة على النقد الوطني (الدولار او الجنيه، وسابقا المارك) او خفضها فإن المسألة تتعلق بالاقتصاد والسياسة الاقتصادية ودور الدولة في التوجيه وإحداث التوازن بين مختلف القطاعات الانتاجية والاستهلاكية... وربما السياحية. كذلك الدولة لا تتردد في التدخل في دعم المزارعين وشركات الطيران حين تكون المواسم غير جيدة او تمر بصعوبات سياسية او مناخية. كذلك تتدخل الدولة في دعم بعض القطاعات العسكرية او الغذائية من خلال شراء كميات من البضائع المكدسة في المستودعات. فالدولة تسهم في تصريف الانتاج الفائض بتوقيع عقود ضخمة تقضي بشراء ما يفيض عن حاجة السوق وتصديره الى الخارج في اطار برنامج مساعدات للدول النامية تشرف عليه مؤسسات رسمية تابعة لإدارات الدولة.
النظريات إذا مجرد أكاذيب تطرح شعارات تخدع بها الدول الكبرى مجموعات الدول الصغيرة بقصد ارباكها وتعطيل امكانات اختيارها للسياسة الاقتصادية المناسبة لمصالح سوقها وشعبها.
لاشك في ان الدولة في العالم الثالث تلعب دور رب العمل (الاول) في توجيه الاقتصاد والتحكم في السوق إلا ان هذا لا يعني ان الدولة في الولايات المتحدة واوروبا غير موجودة او محايدة في لعبة السياسة والاقتصاد والامن.
الدولة هي دولة في أميركا أو أوروبا أو في العالم الثالث... إلا أن الفارق هو ان الدول الاولى تضع مصلحة شعوبها فوق كل مصلحة بينما الثالثة تضع مصلحة الدولة فوق مصلحة شعوبها. فالدولة في النموذج الاول في خدمة الشعب، والشعب في النمودج الثاني في خدمة الدولة.
وفي النهاية إنها المصلحة. والمصلحة هي التي تقرر السياسة والاقتصاد وليس العكس.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 384 - الأربعاء 24 سبتمبر 2003م الموافق 28 رجب 1424هـ