عبر تاريخه الطويل لم يتورط عبدالله السعداوي في حال من الإدعاء واختطاف «العظمة» في ظل واقع مسرحي مصاب بالاثنين معا «الا من رحم ربك»!
يخرج عليك منظرون لا يفقهون في شئون ما يكتبون شيئا... تصدم بأغرار في الحياة والتجربة وقد جنحوا بعيدا في نظرتهم للذين وضعوهم على أول الطريق... تصاب بحال من القرف والغثيان أمام مجموعات لا تفقه قراءة قائمة الطعام في أحد المطاعم الشعبية، فيما النص أمامها فرصة لممارسة مزيد من العقد والإصابة بمزيد من الأمراض الموسمية وغير الموسمية في مستواها الأخلاقي والسلوكي... تنتابك حال من اليأس أمام عروض هي بمثابة كرنفالات للفشل والسذاجة وادعاء المغاير فيما هي مغارات مكتظة بأسراب الخفافيش والظلام... تمني نفسك بعرض يحرجك... يحرضك... يدفعك الى مزيد من المراجعة... ولكنك بمجرد انتهاء العرض تنضم الى طابور طويل ممن شربوا عشرات الجالونات من المقالب، وبدلا من المراجعة يستمر بك الحال في ارتياد الأمكنة ذاتها والعروض ذاتها وتظل هكذا موعودا بـ «العرض الأخير» الذي ينهي هذا اللعب على بصرك وبصيرتك ومعناك الذي تم وأده بعد أن تم استدراجك وكأنك على علم بالوأد القادم... وعلى رغم انك تنهض من موتك لتواصل الدور ذاته تعلم يقينا أنك منذور لهكذا ممارسة لن يقدر لها الانتهاء!
بقدر ما أثث السعداوي الفضاء الذي يتحرك فيه ومن خلاله، عمد بل ركز جل اهتمامه على تأثيث «العقل»... عقله الذي أنتج تلك الفضاءات الباهرة والمتحركة في الأعمال التي يخرج بها على الناس، وهي أعمال تعلي من قيمة الإنسان وتتوجه اليه بكل الحواس المدركة وغير المدركة طارحة قيما هي في الصميم من قضاياهم وآمالهم وحتى يأسهم.
تابعت فتن الرجل المتعددة منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وهي فتن تفتقد وتكاد تحن في كثير من الأوقات الى الأوعية التي تستقبلها بوعي كبير وتتعاطى معها بأقل قدر من السذاجة... وتكاد تكون تلك احدى مزاياه ألا يصادر سذاجة الآخرين على اعتبار انها حق مكفول كما هي النباهة حق مكفول! وظل في تعاطيه مع القيم والقضايا التي يتناولها مستفزا بمعنى استخلاصه وامساكه بمساحات ربما لم تدر في خلد مجايليه أو من كانوا على تماس مع عدد من التجارب التي اشتغل عليها... ذلك الاشتغال المختلِف والمختلَف عليه هو ما يدفع السعداوي إلى التوغل عميقا بحثا عن مضامين جديدة في الحياة قبل أن يلهث وراء المضامين الجديدة في النصوص التي يعد رؤيته وعقله بما يستفزهما!
مر زمن طويل، والسعداوي لم يبرح ذهابه الى المحاولة... المحاولة في أن يقرأ ويحيل ما يقرأه الى معالجات قادمة... ولم يكُ تشبثه بالتجريب ضربا من الترف والبحث فقط عن أطر ومضامين جديدة بقدر ما هو تشبث بالمسار الحقيقي والعميق وظل مؤمنا أن المسرح... والتجريبي منه خصوصا يمكن أن تتحقق من خلاله جملة من الأعمال تعبر خير تعبير عن حال من اللامدرك واللامعاين والمسكوت عنه.
ثمة تعاط عال يبديه السعداوي حيال موضوعة الفرجة... وهو تعاط أزعم انه نشأ من نظر «ملحمي» لتفاصيل تعبرنا أو نعبرها دونما اكتراث أو بشيء من التعالي عليها فيما هو يقيم تلك العلاقة الحميمة بينه وبينها ما يؤهله للعمل على «تطوير استراتيجيات التلقي»... ينغمس في الدور... يذهب بعيدا... ولا يملك المتلقي الا أن يتبعه وسيفضي به ذلك ودونما ريب الى ما يشبه المتاهة!
وأعود الى القراءة التي ينكب عليها السعداوي بتنويعاتها وتشكيلاتها... وهي بالمناسبة صعبة صعوبة خياراته، أتاحت له تنويعات وتشكيلات في المشروعات التي عمل ويعمل عليها، ولن تكون الجوائز التي حاز عليها من خلال المهرجانات المسرحية المحلية والخليجية والعربية دليلنا الدامغ على تميزه واجتهاده بل تتعدى ذلك في النأي بنفسه عن المكنة الإعلامية التي هي المجاز الذي من خلاله يتم ايصال العملية الإبداعية، الا انه عمل على أن تأتيه لا أن يأتيها بحكم طبيعة المحتوى والمضمون الذي يشتغل عليه.
لكأنه اتخذ من مسرح الحياة العملاق ركنا يأوي اليه... يرتب فيه أحلام الناس ويأسهم قبل أحلامه ويأسه... لكأنه المتوجه بكليته صوب ذلك المستطيل أو تلك العلبة التي هشمها في أكثر من عمل، وليخرج على حال «الخندقة»، ويظل مهددا ساعة يتيقن أن لا شيء يبعث على التهديد!
وبلحيته الكثة وجسده الضخم ورأسه الكبيرة وانشغاله المستمر بتلك اللعبة/العلبة الساحرة التي يخرج منها كائناته الملونة والمرحة والمتجهمة حينا... بصمته... بصراخه... بجوعه وعذابه المعرفي، يطل علينا السعداوي مع كل عمل جديد له... كأن لم نره... كأن لم يكن حاضرا... كأن لم يكن غائبا ليحضر!
هائما في براريه التي جاس خلال وحشتها... أليفا كأنه الحاضر... غريبا كأنه الغد... مبعدا ومقصى كأنه الأمس، وبينهما تلك الوشيجة التي تذكر بأواصر الدم!
غدا يؤنسك البيت الذي لم تبرحه... تعمد الى خلع الأسيجة والأسوار استدراجا للمارة الذين يبحثون عن ألفتهم في الأمكنة المصابة بما ابتليت به... وحين يلجون البيت يذهلهم أن لا أثاث فيه ومع ذلك يبدو مكتظا بالنفائس... مكتظا بك!
الى أين تأخذنا؟ الى السهل أم الى الريح؟ الى حيث المنجاة أم الى حيث الكمائن؟ الى حيث الأبواب المشرعة على المدى أم الى المدى المشرع على اللانهايات؟
نحسن الهجاء لنسقط في المديح... نظل نرصدك أيها الشقي بنا... بأخطائنا وصوابنا الغابر... نرصد عاداتك المنتقاة كما نرصد المعدن العصي على التبرم من تشكله!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 384 - الأربعاء 24 سبتمبر 2003م الموافق 28 رجب 1424هـ
