العدد 384 - الأربعاء 24 سبتمبر 2003م الموافق 28 رجب 1424هـ

السعداوي: ما أنشده هو تطوير أداء الممثل وتحريك خلايا مخيلته

حلم جدير أن نحيا من أجله أو نموت ونحن نحلم به

الوسط - حسام أبوأصبع 

تحديث: 12 مايو 2017

ربما سيأتي اليوم الذي نرى فيه الفنان عبدالله السعداوي مكرما في جزر المالديف، أو في مدغشقر... أو أبعد من ذلك على ضفاف الأمازون... ولكن أن نراه يحظى بالتكريم اللائق الذي يستحقه هنا فهو أمر بعيد، بعيد. السعداوي حكاية فريدة من نوعها... فنيا وحياتيا وإنسانيا... قد تختلف معه، وقد تتسلل الشكوك إلى نفسك تجاه بعض ما يقدمه، ولكنك لا تملك - بجردة حساب عامة - إلا أن ترى فيه أنموذجا للفنان الجاد، والحقيقي، الذي توضع أمامه كل صنوف المعوقات، فيزيحها بابتسامة ساخرة، وبضحكة مجلجلة، صارخا... «ثمة بدائل كثيرة».

شخصيا ومعي مجموعة كبيرة من الشباب لا ندين للسعداوي إلا بحب جارف، لا بوصفه فنانا مسرحيا فحسب، بل بوصفه مربيا وأبا حنونا تجد عنده ما لا يتوافر حتى في بيتك... كما أنه يولد في أنفسنا حسرة كبيرة حينما يقدم عرضا لا يرتقي فنيا بما أتوقعه/ نتوقعه، كون السعداوي قيمة كبيرة، وقامة هائلة... وبهذه المناسبة - مناسبة تكريمه بوصفه أحد رواد المسرح الخليجي - أخرج جزءا من حوار مطول أجريته معه منذ سنوات ولم ينشر، هذا الحوار الذي امتد لأكثر من شهر، كان فرصة سانحة للاقتراب من الرجل، وهو أقل ما يمكن تقديمه للرجل الذي أعطى كثيرا، ولم يحصل مقابل عطائه إلا على قلوب تهيم به... وهذا يكفيه، وهذا نص الحوار الذي بدأ بالسؤال عن تقاطع مختبر السعداوي مع ما طرحه بيتر بروك وغروتوفسكي، وعن المرجعيات التي يدين لها بالاستفادة:

- يقول السعداوي: لا أدعي لنفسي هذا الشرف، شرف تواصل مختبري مع مختبر جروتوفسكي وبيتر بروك، فهما يعيشان في أوضاع مختلفة، وعلى رغم الصعوبات التي يعانونها إلا أنهما يملكان خيارات المسرح والتفهم من الآخرين ولا يتنازلان. أما المخرج العربي وأنا منهم فهو مضطر للتنازل، فالمسرحي العربي لا يستطيع تحقيق طموحه في أوضاع غاية في السوء... قد تطلب حركة من ممثلة لا تستطيع القيام بها، وقد تطلب من المصمم تصميما لا يستطيع تنفيذه... ولكن السؤال يبقى وخصوصا أن الفن في مجتمعاتنا سديمي غامض. ويستطيع الكثيرون عيش حياتهم من دون وجود الفن والمسرح في الحياة على الإطلاق، فغياب المسرح لن يعوق أداءهم لوظائفهم أبدا، والمسرحي ليس بذات أهمية إطلاقا، لذلك لا أضع ما أفعله مقارنة مع هؤلاء العمالقة، ففي حقيقة الأمر لم يتأسس هذا المختبر لدي، لكنه حلم يسكنني، وقد تحقق جزء منه في فترات متقطعــــة، ولم يستكـــمل لظروف خارجــة عن إرادتي، فقد جربت في عدة أندية مثل نادي الحالة ونادي المحرق وكان معي سالم سلطان والمرحوم جعفر الحايكي وعبدالله الخال الذي صور بعض التمارين ومصطفى رشيد. ثم في نادي السماهيج و توقف، وتواصل في نادي مدينة عيسى فترة أطول وهي فترة مهمة، وفي مسرح الصواري بشكل متقطع، وقد كتب عن المختبر يوسف الحمدان من خلال متابعته وكنت من خلالها أجرب بعض تمارين المخرجين المختبريين أمثال بروك وجروتوفسكي وغيرهم، وأضيف بعض التمارين من أجل دراستها. وكنت أحيانا أعد المختبر من أجل إخراج مسرحية في إعداد الشباب جسديا وصوتيا فماهية المختبر المسرحي عبارة عن أشكال من التركيز العملي الدقيق والتحليل التخصصي في نقطة معينة... بعيدا عن التلقين، وعن الطريقة الإملائية التي تصنع صورة أو نسخة مشوهة.

فالمختبر هو المساحة التفجيرية أو الاستنتاجية، وعن طريقه يتم كسر نمطية التمثيل عن طريق: الاستثارة والاستفزاز... أما تجاربنا فلم تستكمل أطرها إذ ينفض الشباب من حولي ويتركوني .

لكنني كنت قريبا من بروك أكثر، فهذا الفنان صعب، وله رؤية وهدف مقدسين، فالمسرح بالنسبة إليه لا يمكن أن يكون غاية في حد ذاته مثل الرقص والموسيقى، المسرح بالنسبة إليه وسيلة لدراسة الذات واستكشافها، وطريق لإمكانية الانعتاق... وذات الممثل هي مجال عمله فهو مجال أكثر ثراء من مجال الرسم والموسيقى. فالممثل إذا أراد استكشاف ذاته عليه أن يستدعي كل جوانب هذه الذات: عينيه وأذنيه ويديه وقلبه وجسده وروحه وعند إدراكه لهذا يصبح التمثيل عملا وحياة، وتمتد بعد ذلك معرفة الممثل بذاته من خلال البروفات المؤلمة والمتغيرة دائما. وعن طريق العمل الدؤوب يكتسب الممثل السيطرة التكنيكية على وسائله الفيزيقية والنفسية ما يتيح لهذه الحواجز والعقبات أن تسقط.

أما جروتوفسكي فهو حكاية أخرى... وخصوصا في فكرة التحليل الذاتي للدور، والمرتبطة بفكرة عرض الذات، فالممثل ينبغي ألا يتردد في أن يعرض ذاته، كما هي لأنه يوقن أن سر الدور يتطلب كشف ذاته وفض أسرارها، وهكذا يصبح فعل الأداء فعل تضحية، وفعل كشف لما يفضل معظم الناس إخفاءه، وهذه التضحية هي هديته للمشاهد هنا تصبح العلاقة بين الممثل والمشاهد أقرب إلى علاقة الكاهن بالمؤمن. والممثل يستحضر ويعري ما هو كامن في كل إنسان وما تطمسه الحياة اليومية، وهذا المسرح مقدس طريقة حياة كاملة لكل أعضائه وهنا يكمن اختلافه عن الجماعات التجريبية فقد جعل الفقر فلسفة ونموذجا ومثالا... وقد تخلى ممثلوه عن كل شيء عدا أجسادهم، وهو ما لم تستطعه المسارح الأخرى، ومنه استفدت في طريقة عرضه لمجموعة محدودة من الجمهور وإبعاد المكياج والإضاءة وغيرها وحاولت الاستفادة من تدريباته أو بعضها محاولا تطبيقها على مسرحية (الصديقان) و(الجاثوم) و(اسكوريال) إنما الغوص في مختبره شيء صعب للغاية لعدم تفرغ الشباب وتفرغي.

ودين بروك بالنسبة إليّ أنني استعرت منه مجموعة من التمارين مثل تمارين الارتجال والصوتيات وغيرها ومع ذلك لم يتحقق إلا اليسير والقليل جدا حتى الآن لظروف خارجة عن إرادتي، فالممثلون غير متفرغين ومعظمهم يتهربون من التمارين ويتجهون للعرض وليس لديهم الإدراك الكافي لمعرفة فلسفة التمثيل، وواجبات الممثل الحقيقي، وللتحكم في الرغبات التي تكون ضد مهنة التمثيل والكثير منهم عندهم المسرح مجرد وقت يقضى ثم كل واحد يذهب لشأنه مازالت رغباتهم هي التي تحركهم وليس المسرح باعتباره حياة قد يكون السبب سنهم أو ظروف المجتمع فهم جيل الصورة والحياة المعقدة، فما أن نبدأ حتى ينتهي الحلم بسرعة وليست هناك صالة حقيقية للتدريبات... والغايات التي أنشدها هي تطوير أداء الممثل وتحريك خلايا المخيلة، ووخز الشرايين بالإبر وتخليص الممثل من معوقاته وأعتقد أنه حلم جدير أن نحيا من أجله أو نموت ونحن نحلم به فالحياة اليومية تحاول قتل الحلم فالمختبر يحتاج إلى وقت طويل ومثابرة وجهد لا ينقطع وهذا حلم صعب المنال يبقى حلم في داخلنا يراودنا لكنه يبتعد أكثر فأكثر.

سألته في حواري معه الذي كان أقرب إلى الجلسة العلاجية... هل ثمة خصوصية معينة في مسرح السعداوي، تجعله متميزا ومفارقا، لا سيما في الاستناد على مفهومات مركزية من قبيل الجسد وفلسفته، أجاب...

- في الحقيقة ليس هناك شيء اسمه مسرح السعداوي أو مسرح فلان إلا على سبيل المجاز. إنما هناك أساليب وطرق تأخذ بالكثير من المصادر تهضمها ثم تعيد إنتاجها مثل التمثيل الضوئي في النباتات. فالجسد مثلا فكرة نابعة من المسرح الشرقي (الكاتاكالي) و(الكابوكي) و(النو) و(أوبرا بكين) إذ يظهر مصطلح (الكوشي) أي الطاقة حيث تكون السيادة الكاملة للممثل المدرب منذ الصغر وقد استعارها (آرتو) من المسرح الشرقي كما استعارها الآخرون وأضافوا عليها مثل بروك... ففي المسرح الغربي كانت السيادة للمؤلف ثم المخرج وهنا تكمن المفارقة في شكل التمثيل وشكل المسرح في الطرفين فلو رجعت إلى أنثربولوجيا المسرح عند يوجينو باربرا أو المسرح وقرينه عند آرتوو المسرح الفقير لجرتوفسكي لأصبح الأمر واضحا بالنسبة إلى هذه المسألة.

أما الجسد في المسرح الغربي فهو حديث، وكذلك فلسفة الجسد، يقول ميرلوبونتي: «إننا نتجذر بالعالم عبر الجسد». إذا فالجسد فكرة حديثة بعد أن مورس التغيب الكامل لهذا الجسد/الجسد الذات/اللامعنى/صرخة آرتو/الهيروغليفية الآرتودية/المسرح طاعون/الممثل القربان/العنف المقدس، فقد ظل الجسد تابعا منزوعا عنه الإيجابية وقابعا في السلبية في موت الجسد هذا الموت الرمزي/الخطابات كانت تحاول قتل الجسد وكلها تلتقي في بؤرة تلك الجريمة لقتل الجسد، وهذا الذي جعل فوكو يردد أنا مولوي نسبة لشخصية مولوي عند بيكيت. وقد أراد آرتو تخليص الجسد من المؤسسة.

ولو القينا نظرة على الفلسفة الغربية في التقائها عند تلك البؤرة: أي جريمة قتل الجسد لأدركنا كيف تعرض هذا الجسد لطعنات مميتة! أولا من قبل الميتافيزيقيا الأفلاطونية - الديكارتية، ثانيا من قبل العلم الحديث، ثالثا من قبل السلطة، ولو أضفنا رابعا لكان مركزية العقل أو العقل الشيطاني كما يصفه نيتشه.

أما المسرح فقد ارتبط باحتفاليات دينسيوس بالحس والوعي والمقدس والعنف، والذي بشر بها الفنان الذي أختبر العالم عبر جسده وآلامه هذا الرجل له الفضل في تحويل المسرح الغربي وله تأثير لفهمي للمسرح الجسد - في التجليات الناقدة (لشابلن) ففي الغرب ظهر (البانتومايم) و(المايم) و(مابعد الحديث)... وأغفر لي إذا ذهبت بك بعيدا عن محور السؤال لكن لا بد من هذه الإطالة فالسؤال شائك وخصوصا إننا نتحدث عن الجسد، أما في مسرحي على حد تعبيرك فأنا أولا أنظر إلى بيئتي وفي أي مكان وبلد أنا، أنا أعتبر في الوطن العربي وتحديدا في الخليج هامش لمركز أجنبي ثم أسأل نفسي على أي تراث مسرحي أقف ماذا علي أن أقدم هل مضمون المسرحية مهم هل الحوار مهم باعتبارنا سماعيين كيف نقدم هذا المضمون وهذا الحوار في هذا المسرح كيف علي أن أسس لمسرح مغاير؟ هل هناك أصول للتمثيل أصول للتأليف كيف ينظر إلى المسرح؟ هل له أهمية حضارية هل هناك أصول للنقد المسرحي ماذا تدرس الأكاديميات للخريجين؟ هل اكتفينا من الكلمة حتى نتجاوزها؟ هل هناك أصول للتعبير الجسدي المسرحي؟ هل هناك فلسفة لهذا التعبير هل نفكر عن طريق أجسادنا أم بواسطة اللغة والكلمة؟ هل هناك ثقافة الأذن والعين؟ وبعد كثير من الأسئلة وجدت أنه لزاما علي أن أزاوج وأمزج ما بين الكلمة والصوت والجسد وخصوصا أن المختبر المسرحي لا يأخذ كفايته ولهذا فأنا يعجبني ما طرحه آرتو بإلغاء الكلمة في المسرح، إذ كان لا ينشد إلغاءها إنما استخراج ضجيجها واستنطاقها وإلى الآن أكن حبا لهذا الفنان الذي أثرى الحركة المسرحية لذلك تجد المزاوجة بين الكلمة والجسد في عملية التواصل لدي لكن الكلمة واللغة لا تكونان في مسرحي كما في المسرح التقليدي وفي اعتقادي أن الإنسان يتواصل مع الآخر بكثير من الأساليب لا نستطيع أن نفرق بينها من كلمة وصوت وإشارة ورمز وغيرها من الأساليب والمسرح مشروع لكل الأنواع من التواصل.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً