تحولات كثيرة حملها الاسبوع الماضي على المستوى الفلسطيني - الفلسطيني وبالتالي الاسرائيلي - العربي، فقد كان قرار حكومة آرييل شارون «بطرد» الرئيس الفلسطيني المنتخب ياسر عرفات «بالقوة» افلاسا سياسيا واضحا بنهج اليمين المتطرف الديني والحزبي الذي يحكم الدولة العبرية ويؤشر الى طبيعة المأزق الذي تم زج المنطقة اليه بعد ان وصل خيار القوة والحلول الأمنية الى نهايته المتوقعة وبعد ان جرب الجنرال المهووس بالحروب كل ما في ترسانته العسكرية ضد الشعب الفلسطيني الاعزل لكنه لم يصب نجاحا ولم يتحقق حلمه وحلم وزير دفاعه شاؤول موفاز ورئيس هيئة اركانه موشيه يعلون عندما قالوا انهم سيضربون الفلسطينيين بقوة وبتواصل حتى يركعوا ويعلنوا بأنفسهم هزيمتهم، واذ أثار قرار المجلس الوزاري الاسرائيلي الأمني المصغر كما تقول افتتاحية صحيفة «الرأي» الاردنية ردود فعل متباينة اكدت في معظمها على رفض هذا القرار والتحذير من تداعياته وابعاده على استقرار المنطقة وعلى مستقبل عملية السلام، فان الاعلان الاسرائيلي في حد ذاته يشكل ترجمة عملية لنهج الغطرسة والاستعلاء الذي تمارسه الدولة العبرية في سياستها الفلسطينية ان صح القول والاستهتار الذي تنظر فيه إلى الشأن الفلسطيني سواء فيما يتعلق بمفهوم كلمة الطرد الذي لا تجيزه القوانين الدولية (معاهدة جنيف وشرعة حقوق الانسان) حتى فيما يتعلق بالمواطن العادي من قبل دولته وفي داخلها ايضا، فما بالك والشخص المهدد بالطرد ليس شخصا عاديا وليس مواطنا اسرائيليا فهو رئيس سلطة منتخب جاء الى منصبه بعد سريان اتفاق موقع بين الدولة الاسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية الذي هو رئيسها ايضا اضافة الى انه مواطن فلسطيني أساسا.
ربما تكون المصادفة وحدها التي جمعت بين قرار حكومة شارون «بطرد» الرئيس الفلسطيني المنتخب والاحتفال العالمي بالذكرى الثانية لتفجيرات 11 سبتمبر/ ايلول الارهابية على نيويورك وواشنطن الا ان دلالات القرار والذكرى يمكن استخلاصها بسهولة ورصد ما يمكن رصده في شأن الابعاد الخطيرة للحدثين وان اختلفت الاجواء والمبررات وكما قال وزير الخارجية مروان المعشر، مثل هذا القرار يزج المنطقة برمتها في نفق خطير ولا يغيب عن البال عمق وظلام النفق الذي زج العالم فيه بعد قرار اسامة بن لادن شن «غزوتيه» على نيويورك وواشنطن وما اعقبهما من خلط للاوراق وانهيارات في التحالفات والمواقف والاصطفافات التي تدفع شعوب وأمم ثمن مثل هذه الحماقات والارتكابات غير المبررة شارون - تقول «الرأي» - اذا ماض قدما في سياسته الفاشلة فهو لم يرقَ ذات يوم الى مرتبة رجل دولة رغم المنصب الذي يشغله والمناصب التي شغلها من قبل وكان شغوفا وما يزال برهان القوة الذي اثبت عقمه وفشله وكان حريا به ان يتقدم خطوة شجاعة الى الامام ولا يبقى أسير احقاده الشخصية ضد ياسر عرفات والتي تبدو كل اجراءاته منذ جاء الى الحكم قبل عامين تقريبا وكأنها تصفية حسابات اكثر منها رغبة باحلال السلام والتسليم بحقيقة وجود الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره واقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني.
موقف واشنطن الرافض للقرار الاسرائيلي «المبدئي» قد يلجم شارون ومجلس وزرائه المتطرف عن تنفيذ ما اعتزموا التلويح به لكن مجرد القبول الاميركي والدولي بمثل هذا القرار وعدم العمل على الغائه سيكون الجدار الذي سيستند اليه شارون لاحقا ما يضع العالم امام استحقاق خطير لأنه يكرس حق القوة في اتخاذ القرارات التي تلائمها بعيدا ورفضا لقوة الحق والقانون الدولي ناهيك عن المصير البائس الذي ينتظر خريطة الطريق اذا ما ابعد عرفات وقرر الفلسطينيون احتجاجا الخروج من المعادلة ما سيؤكد سيادة الفوضى والذهاب الى المجهول فلماذا تُطلق يد شارون اذا؟
اما موضوع التهديد الاسرائيلي بطرد الرئيس الفلسطيني فمثل الافتتاحية لصحيفة الدستور الاردنية
ما يمكن ان تعكسه الادانة التي وجهتها الحكومة الاردنية للقرار الاسرائيلي الاولي بطرد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات حملت رسالة واضحة الى حكومة ارئيل شارون مفادها ان مثل هذا القرار اذا تم تنفيذه سيقضي على عملية السلام، ويزج المنطقة كلها في وضع خطر، اي بعبارة اخرى ان «اسرائيل» تعرف شأنها في ذلك شأن جميع الاطراف المعنية ان القرار سينعكس سلبيا على الامن والاستقرار في الاراضي الفلسطينية وفي «اسرائيل» والمنطقة ايضا.
وتحديدا دعوة وزير الخارجية الدكتور مروان المعشر للعودة الى الحوار، والالتزام بخطة خريطة الطريق لتذكر الحكومة الاسرائيلية بانه لا توجد وسيلة غير هذه الوسيلة لتحقيق السلام الشامل والعادل والدائم الذي ترضى عنه الاجيال، وان منطق القوة، والتعرض لرئيس الشعب الفلسطيني المنتخب، والذي قاد شعبه الى السلام مع «اسرائيل» من اول الطريق، لن يأتي بأية فائدة لـ «إسرائيل» ولن يضمن الأمن لشعبها.
كما ان إثارة الفوضى في الجانب الفلسطيني من خلال غياب الرئيس، وتعطيل تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة احمد قريع سيزيد من تعقيد الموقف، وسيؤدي الى مزيد من العنف الناجم عن الغضب واليأس وفقدان الامل، وتلك هي الرؤية التي عبر عنها وزير الخارجية خلال الاتصال الهاتفي الذي تم امس بينه وبين وزير الخارجية الاميركي كولن باول الذي كان ينقل تعازيه بضحايا حادث الاعتداء على المستشفى الميداني الاردني في منطقة الفلوجة العراقية.
ولم نكن بحاجة لتلك المناسبة الاليمة كي يأتي حديث السيد باول متزامنا مع رغبة الاردن في ايصال صوت العقل الى الادارة الاميركية بضرورة العمل لثني «اسرائيل» عن قرارها ووقف التصعيد العسكري، ومواصلة جهود السلام، ذلك ان من حق الاردن الذي يقوم بواجباته السياسية والانسانية في فلسطين والعراق ان يبدي قلقه على مصير المنطقة التي يهددها العنف وتهددها الفوضى بسبب عدم القدرة الدولية على فرض السلام وفق مصالح جميع الدول والشعوب وعلى حد سواء.
لقد جاءت التحذيرات من انحاء مختلفة من العالم الذي يدرك بان القرارات المتهورة، والتصرفات القائمة على القوة الغاشمة لا تحل مشكلة، ولا تحقق سلاما دائما، ولعل هذا الرفض الدولي بما في ذلك الموقف الذي عبر عنه السفير الأميركي في «اسرائيل»، والأمين العام للأمم المتحدة الذي اعلن ان وزراء خارجية الدول الخمس الاعضاء في مجلس الأمن سيناقشون القرار في جنيف اليوم، لعله يشكل رادعا للحكومة الاسرائيلية، ليس من اجل الغائه وحسب، وانما من اجل وقف مخططها لاقتحام قطاع غزة.
ان على المجتمع الدولي واللجنة الرباعية تؤكد الصحيفة التي رسمت خريطة الطريق، وهي الولايات المتحدة الاميركية، وروسيا، والاتحاد الاوروبي، والامم المتحدة اتخاذ الاجراءات العاجلة لمنع تطور الاحداث نحو الاسوأ، وذلك من خلال الوجود المباشر على الارض والمتابعة الحثيثة لهذا الوضع الخطير، ولا بد من معالجة المسائل الامنية بالطريقة التي اقترحها وزير الخارجية الفرنسي الذي دعا الى تشكيل قوة فصل دولية بين الفلسطينيين والاسرائيليين، او اي اسلوب آخر يضع حدا لتلك الحلقة المفرغة التي ادخلت طريق السلام في دوامة لا تنتهي، وتلك هي مسئولية جميع الاطراف المعنية بالامن والسلام والاستقرار الاقليمي والدولي .
من جهته قال الكاتب والمحلل السياسي الاردني باسم سكجها لا يمكن أن تتلخّص قضية تاريخية كالقضية الفلسطينية عند شخص واحد، حتّى لو كان بحجم ياسر عرفات، ولكنّ مثل هذا الشخص يمكن أن يكون رمزا لمرحلة كاملة منها، تماما كما حصل مع الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا، والهنديين غاندي ونهرو، وهنا يصبح الشخص تلخيصا للحالة العامّة وتعبيرا حساسا عنها...
وياسر عرفات واحد من هؤلاء القادة التاريخيين، وعلى رغم كلّ الأنواء التي رافقت مسيرته، والجدل بشأن شخصيته وسياساته، فقد ظلّ يمثّل الشعب الفلسطيني، وفي اللحظات الصعبة التي كان يمرّ بها وكانت كثيرة كان الفلسطينيون يتوحّدون حوله، ولا يبخلون في القول إنّ المسّ به هو المسّ بالشعب الفلسطيني نفسه...
ونتذكّر يوم عودة عرفات لزيارة دمشق، بعد طرده منها بسنوات، وكانت المناسبة زيارة قبر الشهيد أبو جهاد، وكيف تحوّل مخيم اليرموك إلى مظاهرة تحمل سيارة عرفات في ردّ واضح على الإهانة التي تعرّض لها، ونتذكّر أيضا الكثير من المواقف المشابهة، فقد ظلّ الشعب يلتفّ حول القيادة، ولعلّ ذلك هو أبرز مميّزات العمل الفلسطيني...
وفي قناعتنا فإن أزمة الإبعاد أو القتل ستنتهي كما بدأت، فمعدة شارون الكبيرة أصغر من أن تهضم عرفات، ويبقى أنّ الكرة في ملعب واشنطن التي لا تريد أن تفهم أنّ الرجل يلخّص القضية، فهو الوحيد القادر على إتّخاذ القرار في فلسطين، فقد بات الفلسطينيون يعرفون أنّ قراره لا يمكن إلاّ أن يكون وطنيا...
والقدرة على التحليل قال مدير مركز القدس للدراسات المحلل السياسي عريب الرنتاوي: منذ قرابة العامين تقريبا، والقضية الفلسطينية تكاد تختزل بالمصائر الشخصية للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.. رجل ذو صلة او ليس له صلة.. جزء من المشكلة ام جزء من الحل.. ترحيل وابعاد، ام تصفية واغتيال.. رمز بلا صلاحيات ام زعيم صاحب سلطة وقرار.
والواضح ان ثمة قرارا اميركيا اسرائيليا يقضي بتجميد «حالة الرئيس» وابقائه «لا معلق ولا مطلق» ولكل من الدولتين الحليفتين حساباتها في هذا الشأن.
واشنطن لا تريد لقرار دراماتيكي من هذا النوع والحجم ان ينعكس سلبا على فصول حربها ضد الارهاب بدءا من افغانستان وانتهاء بالعراق.. وتل ابيب مرتاحة للموقف على الاقل حتى تاريخه.. فالاسهم الشخصية للرئيس الفلسطيني في هبوط مستمر اقليميا ودوليا ولانه رقم داخلي صعب في المعادلة الفلسطينية، فان بقاءه في موقعه يحول دون انبثاق قيادة جديدة، قد يترتب على تعاطف العالم معها وضع السياسات والحكومات الاسرائيلية في خانة صعبة.
وأضاف الرنتاوي ان «اسرائيل» هي المستفيد الأكبر من «شخصنة» الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي، وهي وظفت هذه الورقة لشراء الوقت لمدة عامين متتاليين وربما لم يحن الوقت لحرقها نهائيا ووقف العمل بقواعد هذه اللعبة، فكلما اقتربت «اسرائيل» من المس بشخص الرئيس حصارا وابعادا، كلما اعيد الاعتبار لشعبيته في اوساط الفلسطينيين وهي حقيقة لا شك في ان «اسرائيل» تدركها، ومع ذلك فانها تستمرئ الاستمرار في ذات اللعبة. فكلما اقتربت «اسرائيل» من المس بشخص الرئيس بشخص الرئيس حصارا وابعادا، كلما اعيد الاعتبار لشعبيته في أوساط الفلسطينيين وهي حقيقة لا شك في أن «اسرائيل» تدركها، ومع ذلك فانها تستمرئ الاستمرار في اللعبة ذاتها.
العدد 383 - الثلثاء 23 سبتمبر 2003م الموافق 27 رجب 1424هـ