بدأت في دبي اجتماعات اقتصادية يشرف عليها «صندوق النقد» و«البنك الدولي». وتهدف تلك الاجتماعات إلى بحث مختلف الحقول المتعلقة بالتنمية الاقتصادية، والانفتاح المالي، والغاء الضرائب الجمركية، وازالة الحواجز بين الأسواق، وتنويع مصادر الدخل، وتطوير البنى التحتية، وتشجيع الاستثمارات، ومكافحة الأمية، وتطوير الرعاية الصحية، وكفالة العمالة الأجنبية، وتحديث القوانين والضمانات الاجتماعية... إلى آخره من المشكلات أو الطموحات التي تريد المؤسسات الدولية اقناع العالم بها أو فرضها بالقوة باسم الحريات ومؤسسات المجتمع المدني.
هذه الوصفات الجاهزة تحت عناوين نهائية تبدو بريئة وتهدف - كما يحب اصحابها ان يقدموها - الى خدمة الخير العام وتعزيز الاصلاحات ودفع عجلة التطور في البلدان النامية للالتحاق بالغرب والتقدم السريع لتصبح في فترة وجيزة في مصاف الدول المتقدمة اقتصاديا وتقنيا.
إلا أن قراءة ثانية لتلك العناوين تكشف عن وجوه سلبية لمجموعة الوصفات الجاهزة، وأول تلك السلبيات ان توصيات صندوق النقد ورديفه البنك الدولي لا تأخذ في الاعتبار مستوى «النمو المتفاوت» على حد تعبير سمير أمين بين «طبقة» الدول المتقدمة و«طبقة» الدول النامية.
السلبية الأولى تفتح الباب على سلبية ثانية وهي الفجوة الزمنية (التفاوت التاريخي) بين معدل نمو دولة معينة في درجة التطور الرأسمالي وبين دولة نامية لاتزال في خطواتها الأولى في مسيرة التحول من مجتمع «البداوة» أو «الفلاحة» أو «الرعاة» إلى مجتمع رأسمالي حديث.
ومن السلبيتين الأولى والثانية يمكن رصد عشرات السلبيات التي هي أشبه بحرب دمار لشخصية المجتمع وهويته وثقافته وقدراته... قبل ان تصل الدولة المعنية إلى اكتشاف أول ايجابية من ايجابيات التحول الاجتماعي - الاقتصادي. فالوعود بالتطور صحيحة في النهاية إلا انها متأخرة وتحتاج إلى سنوات وسنوات من التنمية حتى تصل إلى الدرجة الأولى من سلم التطور. وأحيانا تنهار الدولة ويتفكك المجتمع وتضيع هويته ويسقط اقتصاديا ضحية الديون وفوائد الديون (وربما الحروب الأهلية) قبل ان يتذوق الفقراء حلاوة الرفاهية التي وعدهم بها البنك الدولي من اليمين وصندوق النقد من الشمال.
المشكلة اذا ليست نظرية ولا تنظيرات يتقدم بها بعض الاكاديميين ويتسابقون إلى طرح الأفكار الواعدة ويقرأون السطور ويرفضون ان يقرأوا ما بين السطور.
هذا النوع من الأفكار الاكاديمية (الورقية) التي لا تدرس الجغرافيا ولا تعرف التاريخ ولا تهتم باختلاف الاجتماع والفجوات الزمنية بين تطور وتطور واختلاف شروط التقدم بين بلد وآخر... اسهمت مرارا في «انهيارات ثلجية» زعزعت اركان الكثير من البلدان ودفعت بعض الدول إلى التفكك وأغرقت بعض «النمور الآسيوية» مثلا في بحر من المشكلات وأحيانا الدماء.
المشكلة اذا ليست تنظيرية وانما تبدأ اساسا في التاريخ (التفاوت الزمني) والجغرافيا (سيطرة دول الشمال على الجنوب) والاجتماع (الفارق بين العالم الثالث مقارنة بالعالمين الأول والثاني). وأخيرا هناك ثغرة النمو نفسه اي ما يسمى التطور المتفاوت، أو التطور اللارأسمالي (مصطلح سوفياتي سابق) أو نمو من دون تنمية (مصطلح أميركي).
المسألة اذا ليست وصفات طبية جاهزة. فالمجتمعات ليست مريضة، وانما هي متأخرة. والتأخر والتقدم مسائل نسبية وليست مطلقة والزمن يتكفل بازالتها اذا سمحت الدول الكبرى (وشركاتها ومصارفها المسيطرة) بذلك.
فالمطلوب من «البنك الدولي» ووصيفه «صندوق النقد» وقف التدخل في شئون الدول النامية اذا كانت مثل هذه المؤتمرات صادقة في حثّ العالم الثالث على التقدم ليصبح على درجة من التطور. ولكن كما بينت الحوادث وسياسة «البنك الدولي» وتاريخه انه لا يكترث كثيرا بلحاق الدول النامية بالغرب بل إن جهده ينصب في معظم الاحيان والحالات على كيفية تطوير التحاق تلك الدولة بسياسة الغرب وعجلته الاقتصادية. والفارق بين اللحاق والالتحاق يكشف حقيقة تلك الوصفات الطبية وأهدافها البعيدة المدى.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 383 - الثلثاء 23 سبتمبر 2003م الموافق 27 رجب 1424هـ